كذا وهكذا تحدد المنازل والساعات والدقائق للحل والترحال كما تحدد أسفار الملوك. إما الشيخ موسى فجاء من العراق إلى دمشق راكبا على بغل المكاري حتى نزل بباب الشيخ محمد حسين مروة في دمشق، لم تبث الدعايات لاستقباله ولم يشعر به أحد ولم يحضر لاستقباله أحد من أهل البلاد الا ان يكون بعض ذوي رحمه الأقربين فلما حضر وراءه الناس وسمعوا أقواله ورأوا أفعاله كان له المقام الاسمي.
الشيخ موسى شرارة واصلاحاته سعى الشيخ موسى رحمه الله سعيا حثيثا في الاصلاحات الدينية فانشا مدرسة تدرس فيها علوم العربية من النحو والصرف والبيان وعلم المنطق وعلمي الأصول والفقه واجتمع فيها عدة من الطلاب استفادوا وأفادوا وأحيا إقامة العزاء لسيد الشهداء ورتب لذلك مجالس على طريقة العراق وسن للشعر العاملي طريقة جديدة وعقد لقراءته المجالس على غرار مجالس العراق وسن لأهل بنت جبيل عمل الطعام عن روح الميت ثلاثة أيام ولم يكن ذلك معهودا ومنع النساء عن اتباع الجنازة. واتفق موت أحد الوجهاء فعمل أهله طعاما ودعوا الشيخ ووجوه تلاميذه فاتفق ان سمع بعض التلاميذ كلمة استخفاف بهم من أحد الجالسين في سوق البلدة الصغير تعود إلى ذهابهم للولائم فامتنعوا من الحضور وغابوا عن الأبصار وافتقدهم الشيخ وأبى تناول الطعام حتى يحضروا ففتش عليهم أصحاب الدعوة فلم يجدوهم وما زالوا يفتشون عليهم حتى وجدوهم وتوسلوا إليهم في الحضور واعتذروا فأبوا ان يحضروا فما زالوا بهم حتى حضروا. وجرى من الذاكرين للعزاء بعض الأمور الموجبة لاعراضه عنهم فطلب إلى القراءة في ذلك المجلس فقرأت، وكان يعظ في المجالس ويقرأ في نهج البلاغة فقال لي ان اقرأ بدله في النهج ففعلت، وقال لي مرة كل صفاتك حسنة الا شدة الحياء. وأنشأ مجالس الفاتحة وقراءة الشعر فيها على طرز العراق وعلم الأدباء طريقة النقد في الشعر وشجعني على النظم، ولما توفي الشيخ عبد الله نعمة عقد له مجلس الفاتحة ونظم الشعراء في رثائه وانا منهم ونظم هو قصيدة قال من جملتها في حق ولده الشيخ حسن:
وذا حسن الأخلاق من خير دوحة * وخير بطون أنتجته عقامها وقال إن وصف البطون بالعقام مستحسن أ لا ترى إلى قول الشريف الرضي: وكانوا نتاجا للبطون العقائم وهو اشتباه لم يتفطن له أحد من الأدباء الجالسين وتفطنت انا له فان الرضي رضي الله عنه يقول:
إذا نزلوا بالماحل استنبتوا الربى * وكانوا نتاجا للبطون العقائم ومعناه ان البطون العقيمة بسبب المحل والقحط تعود منتجة ببذلهم وجودهم لا انهم نتجوا من بطون عقائم.
ومن تلك المجالس التي أنشأها أربعة مجالس أحدها ليلة الجمعة عنده واثنان يوم الجمعة صباحا واحد بعد الآخر وكان يعظ في الأول منهما ويجتمع الطلبة ويتداكرون في المسائل العلمية ويقرأ في نهج البلاغة وواحد يوم الجمعة عصرا وكان يسال الطلبة ليلة الجمعة مسائل في العلوم التي يقرأونها عند غيره من النحو والصرف والبيان والمنطق فيثني على المصيب ويلوم المقصر وكان يطلب مني ان أنوب عنه في السؤال في بعض الليالي فافعل، وكان يقول للمقصر الحق في هذا على شيخك وشيخه حاضر واتفق ليلة حضور الرجل الظريف الشيخ محمد مغنية فلما تكرر من الشيخ هذا القول التفت إليه فقال وشيخه حقه على من؟ فقال عليكم لأنها على الأصول تنبت الفروع، واتفق ان الشخص الذي كان عنده المجلس الثاني يوم الجمعة غضب لأمر ما وأغلق بابه وقت المجلس وحضر في المجلس الذي يقام عصر الجمعة فجعل الشيخ يسأله عن سبب إغلاقه بابه ويتسعطفه فلمته في نفسي على ذلك على مقتضى نزق الشباب فما كان من الرجل الا ان اعتذر وقال إنه يعود إلى فتح المجلس في الجمعة القادمة فعلمت حينئذ خطاي وأصابته. وهذه المجالس التي أنشأها وان لم تكن كاملة من جميع النواحي لأنها كانت على غرار مجالس العراق فكتب له بعض الذاكرين سفينة ضمنها ما يقرأ في مجالس العراق وفيها جملة من الأكاذيب وتغييرات للتاريخ الصحيح الا انها على ما فيها من عيوب أصلح مما كان قبلها فقد كان يقرأ في جبل عامل في عشر المحرم ليلا فقط في كتاب يسمى المجالس مخطوط من تاليف بعض أهل البحرين فيه عشرة مجالس مطولة جدا يجتمع منها كتاب ضخم، والسعادة العظمى لمن يحظى بهذا الكتاب ويملكه وفي أوله هكذا: المجلس الأول في الليلة الأولى من العشر المحرم أيها المؤمنون المجتمعون، ثم يشرع في مقدمة طويلة ثم يبتدئ في ذكر حديث مكذوب أشبه بالقصص المخترعة في هذا الزمان أو صحيح لكن زيد عليه اضعافه من الأكاذيب في أثنائه وفي آخره، وهذا الكتاب قد رأيته وانا صغير السن وعلق بذهني منه حديث عن فاطمة بنت الحسن ع انها رأت طيورا بيضاء تمرغت بدم الحسن ع وجاءت حتى وقفت على حائط دارها بالمدينة.
ثم يبتدئ بالمجلس الثاني فيقول المجلس الثاني في الليلة الثانية من عشر المحرم أيها الإخوان المجتمعون ثم يشرع في مقدمة نظير مقدمة المجلس الأول وحديث شبيه بحديثه. وهكذا حتى ينتهي إلى الليلة العاشرة، وهذه المجالس ليس من شرطها ترك التدخين في أثنائها ولا ترك الكلام أحيانا بل هي أشبه بالقصص التي تتلى في المقاهي في هذا العصر، وفي اليوم العاشر تعطل الأعمال إلى ما بعد الظهر ويقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتى بالطعام إلى المساجد وفي الغالب يكون من الهريسة فيأتي كل انسان بقدر استطاعته فياكل منه الفقراء ويأكل منه قليلا الأغنياء للبركة ويفرق منه على البيوت كل ذلك تقربا إلى الله تعالى عن روح الشهيد أبي عبد الله الحسين ع. إما القرى التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر على قراءة المقتل يوم العاشر ويقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر كل ليلة شيئا حتى يكون الباقي إلى يوم العاشر خاصا بالمقتل وحده، وكانت المجالس التي أنشأها الشيخ موسى على ما فيها من عيوب كما قدمنا أصلح بكثير مما تقدمها وكانت مبدأ الاصلاح لمجالس العزاء ولما الفنا لواعج الأشجان والمجالس السنية وجدنا ان جملة مما يقرأه الذاكرون في العراق مكذوب لا أصل له وبعضه قد زيد فيه أشياء لا أصل لها منها المنسوب إلى حبيب بن عمرو أنه قال لأمير المؤمنين لما دخل عليه بعد ما ضربه ابن ملجم ان البرد لا يزلزل الجبل الأصم ولفحة الهجير لا تجفف البحر الخضم والليث يضرى إذا خدش والصل يقوى إذا ارتعش، فهذا الكلام المزوق لم يذكره مؤرخ ولا محدث وانما هو من تزويق بعض الناس ويقرأه كل ذاكر في العراق واشتملت عليه سفينة الشيخ موسى شرارة.