وذلك بين سنة 1295 و 1296 فشرعت في قراءة ذينك الكتابين على السيد محمد حسين ابن عمنا السيد عبد الله وكان فاضلا حسن الأخلاق فحضرت عنده القراءة انا ورفيقان لي من بني عمنا هما أكبر مني سنا بكثير فجلسنا أمامه في المسجد على ركبنا متأدبين كما هي العادة وشرع أحدنا يقرأ العبارة كما هي العادة أيضا بان يقرأ أحد التلاميذ عبارة الكتاب والباقون يضبطون عليه ثم يفسرها لهم الأستاذ ثم يقومون فيعيد الذي قرأ العبارة ما قاله الأستاذ في تفسيرها والباقون يراقبونه هل أصاب أو أخطأ وفي اليوم الثاني يقرأ العبارة تلميذ آخر ويعيد ما كرره الأستاذ حتى ينتهي الدور ويعود إلى الذي قرأ أولا. فلما قرأ: أصل، الكلمة قول مفرد قال له الأستاذ قف فوقف فقال الأستاذ كل ما مر في أول الدرس ص فمعناه أصل وكلما مر ش فمعناه شرح فليكن ذلك على علم منكم فقلنا نعم ثم قال اعلم أنه لا بد لكل طالب علم قبل الشروع فيه من معرفة ثلاثة أشياء حد العلم وموضوعه وغايته إما حده فلئلا يدخل فيه ما ليس منه واما موضوعه فلأن تمايز العلوم بتمايز الموضوع واما غايته فلئلا يكون طلبه عبثا ولئلا يكون كمن ركب متن عميا وخبط عشوا ولكنه قال وخبط خبطة عشوا فلا يزيده كثرة السير الا بعدا. إما حد علم النحو فهو علم بأصول يعرف به أحوال أواخر الكلم من حيث الاعراب والبناء وموضوعه الكلمات العربية وغايته صون اللسان عن خطا في المقال فلما سمعت هذا الكلام أظلمت الدنيا في وجهي، وسني يومئذ نحو العشر سنين وقلت في نفسي هذا علم لا يمكن ان أتعلم منه شيئا إن كان كله من هذا القبيل متن عميا خبطة عشوا ما هو هذا الكلام. لكن هذا الدرس أفادني درسا في التعليم وكيف ينبغي ان يكون. ثم قال الشيخ احفظوا هذا الذي ألقيته عليكم غيبا لتعيدوه علي غدا ولست أتذكر ما جرى لنا في حل هذه المشكلة أ ضربنا صفحا عن حفظه أم كتبه لنا وحفظناه ثم ابتدأ أحد رفيقي يقرأ درس التصريف وكانا أكبر مني سنا كما مر لكنهما في منتهى البلادة. فقال اعلم أن التصريف في اللغة التغيير وفي الاصطلاح تحويل الأصل إلى أمثلة متعددة لمعان مختلفة لا تحصل تلك المعاني الا بها. وشدد اللام من تحصل فضربه الشيخ على هذه الغلطة القبيحة وأدركت انا حينئذ تقدمه في البلادة لأن كلمة تحصل مبذولة معروفة لا يمكن ان يقرأها عامي بتشديد اللام فقال له ذلك التلميذ لما ضربه والله لو ضربتني بخشب البيت ما نزل من عيني دمعة.
أول ديوان شعر قرأته كان لوالدي صديق اسمه الحاج محمود مروة من الزرارية ينزل عندنا في طريقه إلى بنت جبيل فأوصيته ان يشتري لي ديوان شعر من بيروت فاشترى لي ديوان أبي فراس الحمداني فجعلت أقرأ فيه وحفظت كثيرا منه لا يزال في حفظي إلى اليوم وكنت افهم أكثر معانيه والبعض لا افهمه والبعض افهمه على غير وجهه لأنني كنت صغير السن جدا وهو أول ديوان شعر قرأته.
زيارتنا لعمنا السيد محمد الأمين ابن السيد علي الأمين كان له منصب مفتي بلاد بشارة كما كان لأبيه من قبله مع أنه لم يكن في عداد العلماء بل في عداد الرؤساء لذلك كان أهل النفوذ في البلاد تارة يسالمونه وتارة يعادونه ويخاصمونه وكان يوسف آغا المملوك من أهل صور من ألد أعدائه لأنه اعتاد ظلم الفلاحين من أهل جبل عامل فكان عمنا المذكور يعارضه وقدر يوسف آغا بدهائه وأساليبه الشيطانية ان يستميل إليه رؤساء البلاد فيكونوا معه على السيد محمد الأمين.
حدثني الحاج إبراهيم عبد الله قال اجتمع في منزلنا بالخيام جماعة وكتبوا مضبطة في الشكاية من السيد محمد الأمين ختم فيها أبو سويد من زبدين وختمت فيها انا وأخي الحاج محمد ومختار النصارى في الخيام وأعطيناها للشيخ صادق من أهل الخيام من أقارب آل صادق فيها ليمضيها من القرى إما مختار النصارى فتوفي فجاة تلك الليلة واما أبو سويد فكان في حجرته التي نام فيها كانون فحم أشرف منه على الموت واما الشيخ صادق فركب فرسا وذهب فلما تجاوز عقبة الخيام ووصل إلى السهل عثرت به الفرس فسقط عنها فكسرت رجله فحمل في نعش إلى الخيام فجاء الحاج حسن عبد الله إلى أولاده وقال لهم كفوا عن هذا الرجل قبل ان تصيبكم المصائب بسببه فكفوا.
انتهى ما حدثني به الحاج إبراهيم وهذه الواقعة اشتهرت في جبل عامل يومئذ حتى تحدث بها الخاص والعام وسمعتها وانا طفل صغير لا أظنني أتجاوز السبع وزاد الناس فيها حواشي كعادتهم في أمثال هذا المقام مثل ان السيد محمد الأمين أراد صلاة الصبح في ذلك اليوم وليس معه ماء فنبعت له عين ماء فتوضأ والحقيقة التي لا شك فيها هي ما حدثني به الحاج إبراهيم لأنه شاهد عيان وبعض أمورها قد جرت معه ومع أخيه. وكان السيد محمد الأمين مرة في خصام مع خليل بك الأسعد ويوسف آغا المملوك فهدده الوالي المكلف بالتحقيق في هذا النزاع في بيروت بأنه يحبسه فقال له ان حبستني لم تقدر على حبس لساني وقلمي وكثر الكلام فيما بينهما فأرسل الوالي إلى خصومه وألزمهم بصلحه فاستاؤوا لذلك كثيرا وقالوا بعد هذه المشاق والنفقات الكثيرة والأموال الجزيلة نلزم بالصلح. حدثني بذلك الحاج حسن ملحم خال أولاد الحاج حسن عبد الله وكان له ميل شديد لعشيرتنا قال فجئت إلى السيد محمد الأمين أبشره بذلك فلم يهتم به وقال لي هم يعتمدون على الحكام وعلى أموالهم وأعوانهم وانا اعتمادي على الله وحده. وبعد ان رجع من بيروت إلى قرية الصوانة ظافرا على اخصامه الذين أرادوا به الغوائل ذهبنا للسلام عليه مع شبان بني عمنا ولم أكن رأيته قبل ذلك الا مرة واحدة جاء فيها مع ولده السيد حسن ليلا إلى دارنا بشقرا وكنت يومئذ صغير السن جدا فلم تبق بذاكرتي صورته ولا صورة ولده السيد حسن وكانت دارنا ضيقة وفيها بعير مناخ فلم يستطع المرور الا بصعوبة فقال لوالدي يا أخي دارك ضيقة فقالت له والدتي ما ذا نصنع لك، في جوارنا خيرات كثيرة ولا تعطينا منها شيئا ببيع أو هبة لنوسع دارنا فسكت إما هذه المرة فكان عمري حوالي عشر سنين وذلك حوالي سنة 1294 فرأيته رجلا صبيح الوجه أشم الأنف جهوري الصوت بطينا شجاع القلب يلبس على رأسه شالا من الترم الأخضر ويلبس جبة وثيابا ليست بالفاخرة ويبسط له سجادة صغيرة فيجلس عليها خارج داره فسال عني ولم يك يعرفني وفي الليل اتى بخرج فيه كتب من دواوين شعرية وغيرها من مطبوع ومخطوط واعطى كل واحد منا كتابا وكتب عليه انه وقف عليه وشرط شروطا منها ان يعيره ولا يمنعه كأنه قد وقف عليه ضيعة أو خانا. ولما ودعناه جعل يوصي ابن ابنه السيد حسين بطلب العلم ورأيته مرة ثالثة حين وفاته فكان بطلعته البهية وهو ميت يبهج النفس كما كان في حياته ولا يوحشها وكانت وفاته بعد رؤيته الثانية بمدة قصيرة لعلها تبلغ السنة أو السنتين.