الذهب مضيعة للوقت والمال في عصر كان يرى فيه الكثيرون غير ذلك.
وذهب إلى أكثر من ذلك فقال إن الاشتغال في الكيمياء بقصد الحصول على الذهب يذهب العقل والجهد والمشتغل في ذلك يخدع الناس كما يخدع نفسه، والكيمياء من هذه الناحية علم خادع وزائف. وقد وضع رسالة سماها رسالة في بطلان دعوى المدعين صنعة الذهب والفضة وخدعهم . ومن الغريب ان بعضا من رجال الفكر في عصره والعصور التي تلته قد هاجموه وطعنوا رأيه الذي ضمنه هذه الرسالة.
وكذلك كان الكندي لا يؤمن باثر الكواكب في أحوال الناس، ولا يقول بما يقول به المنجمون من التنبؤات القائمة على حركة الكواكب.
ولكن هذا لا يعني انه لم يشتغل في الفلك، فقد وجه إليه اهتمامه من ناحيته العلمية وقطع شوطا في علم النجوم وارصادها. وله في ذلك مؤلفات ورسائل. وقد اعتبره بعض المؤرخين واحدا من ثمانية هم أئمة العلوم الفلكية في القرون الوسطى. وقد يكون الرأي الذي قال به من عدم تأثير الكواكب في الإنسان صورة من نظرياته التي توصل إليها بما يتعلق بالنفس الإنسانية وعالم الأفلاك.
ومن دراسة لرسائله في العلة القريبة الفاعلة للكون والفساد، يتجلى انه كان بعيدا عن التنجم لا يؤمن بان للكواكب صفات معينة من النحس أو السعد أو العناية بأمم معينة. وهو حين يبحث في العوامل الكونية وفي نظرية الفعل واوضاع الاجرام السماوية يبدع ويكون العالم بمعنى الكلمة الدقيق. فلقد لاحظ أوضاع النجوم والكواكب وخاصة الشمس والقمر بالنسبة للأرض، وما لها من تأثير طبيعي وما ينشأ عنها من ظاهرات يمكن تقديرها من حيث الكم والكيف والزمان والمكان....
وضع الكندي تفسيرا علميا بصفات الكائنات الحية من نبات وحيوان وانسان، وقال إن اختلاف خصائصها يرجع إلى المناطق التي تعيش فيها هذه الكائنات والى فعل الجو في التركيب البدني والوظائف البدنية وفي المزاج النفسي والأخلاق والاستعداد العقلي. لان بدن كل كائن يجعل هذا الكائن الأخلاق التي تلحقه، وذلك منذ تولد النطف واستقرارها في الأرحام، لان مزاجات النفس متبعة مزاجات الأجسام بوجه عام . وتبعا لذلك كله تكثر الكائنات الحية أو تقل وتزداد معالم العمران أو تنقص ويعلق الدكتور أبو ريده على ذلك بقوله وكان الكندي يريد ان يفسر التاريخ على ضوء هذه النظرية. فهو يقول إن العوامل الكونية التي يتكلم عنها تؤدي في كل دهر بحسب المزاج العام للنوع والمزاج الخاص للافراد، إلى ظهور استعدادات نفسية وخلقية فتحدث أنواع جديدة من الإرادات والهمم تؤدي بدورها إلى أحوال وسنن جديدة والى تغير الدول وما يشبه الدول.
وهنا لا بد من التعليق بان العلماء في هذا العصر قد توصلوا إلى أن هناك صلة بين العوامل الجوية وبين مزاج الإنسان كما قال الكندي. فدرس العلماء العلاقة بين إشعاع الشمس وكلفها والتقلب في أحوال الجو وبين كهربة الجو والشحنات التي يحملها وظهر لهم ان علاقة وثيقة بين الهواء الذي نتنفسه وبين المزاج. فالشعور بالنشاط أو الفتور يتصل بالجو وبما يحويه من دقائق مكهربة، إذ لا يخفى ان الهواء يحتوي على دقائق مكهربة بعضها يحمل شحنات موجبة وبعضها يحمل شحنات سالبة. وهذه الشحنات تؤثر على الإنسان في مزاجه وفي نشاطه وفي فتوره وتعبه وإعيائه، كما تؤثر على تفكيره ونتاجه واعماله واستعداداته النفسية والخلقية. وهذه الشحنات تتأثر بالشمس وكلفها، اي ان الأساس في تقلبات الجو وكهربته يعود إلى الشمس. وهذا ما يراه الكندي من أن الشمس هي التي تسبب الظواهر الجوية وهي التي تؤثر في الكائنات الحية على ظهر الأرض من نبات وحيوان وانسان وهو ما يسميه الكندي بالحرث والنسل وفي خصائصها.
واتى الكندي فوق ذلك باراء خطيرة وجريئة في نشاة الحياة على الأرض مما دفع الكثيرين إلى الاعتراف بان الكندي مفكر عميق من الطراز الحديث. وتتجلى آراؤه هذه في رسالته في العلة القريبة الفاعلة للكون والفساد. فدلل بها على بصيرة نافذة وعمق في التفكير واعمال للعقل دون التقيد باراء من سبقوه من علماء اليونان وفلاسفتهم، فكان في استنتاجاته واستقصائه وبحثه وما توصل إليه مثال العالم المبتكر والمفكر الملهم.
ودرس الكندي الرسائل والمؤلفات التي وضعها علماء اليونان في البصريات وانتقد بعضها وفي رأيه انه لا ينبغي للعالم ان يبدي رأيا لا يستطيع اثباته بالأدلة.
وقال الدكتور فرانتز روزنتال: وكان الكندي على صواب عندما أظهر استياءه من العالم اليوناني الذي اعتمده عندما كان يصنف رسالة من رسائله في البصريات، وذلك لان هذا العالم اليوناني لم يراع الأساليب العلمية المعترف بها... وقد اخرج الكندي رسائل قيمة في البصريات والمرئيات وله فيها مؤلف لعله من أروع ما كتب. وهو يلي كتاب الحسن بن الهيثم مادة وقيمة. وقد انتشر هذا الكتاب في الشرق والغرب وكان له تأثير كبير على العقل الأوروبي كما تأثر به باكون وواتيلو.
وللكندي رسالة بسبب زرقة السماء. وتقول دائرة المعارف الاسلامية: ان هذه الرسالة قد ترجمت إلى اللاتينية، وهي تبين ان اللون الأزرق لا يختص بالسماء، بل هو مزيج من سواد السماء والأضواء الأخرى الناتجة عن ذرات الغبار وبخار الماء الموجود في الجو. ويمتدح دي پور رسائل أخرى صغيرة وضعها الكندي في المد والجزر ويقول بصددها :... وعلى الرغم من الأخطاء التي تحويها هذه الرسالة الا ان نظرياتها قد وضعت على أساس من التجربة والاختبار... فقد كان الكندي يلجا إلى التجربة ويرى فيها سبيلا للوصول إلى الحقيقة والوقوف عليها.
والكندي يلجا في طريقة العرض إلى عرض رأي من تقدمه على اقصر السبل وأسهلها سلوكا، وان يكمل بيان ما لم يستقصوا القول فيه...
اعتقادا منه ان الحق الكامل لم يصل إليه أحد، وانه يتكامل بالتدريج بفضل تضامن الأجيال من المفكرين... ولا تخلو رسائل الكندي من أفكار