الجزيني وتلاه في القرن العاشر الشهيد الثاني الشيخ زين الدين العاملي الجبعي وانتشرت في القرن الحادي عشر مؤلفات الشيخ الحر العاملي وأشرق القرن الرابع عشر بآثار فقيدنا العظيم فكانت مصابيح يشع سناها بمختلف العلوم في أقطار الاسلام والمسلمين.
صحبت كثيرا من الفقهاء وطالعت اخبار كثير من العلماء فما رأيت ولا سمعت بأكثر جامعية لفضائل العلم واخلاق العالم وزهد العالم وتواضع العالم وعفة العالم من فقيدنا العظيم تلك الصفات التي يجب ان يتحلى بها أو ببعضها العلماء.
كان يأخذ بلب محدثه باخلاقه السهلة وحديثه العذب لا يعرف عنجهية ولا يستمسك بكبر مع أصيل نسبه وسعة علمه وعلو منزلته.
كان فينا كأحدنا لا يفسح لنا المجال لخدمته حتى يكون السابق إليها.
كان يتجنب مركب النقص فلا تسمع منه كلمة انا انا لأن ذلك قول من يشعر بالنقص فيجبر بالتمدح لنفسه.
إما سيدنا العظيم فقد كان بعيدا عن هذا المركب لأن فضائله تحدث عن نفسها:
كنا إذا تذاكرنا أمامه بالأدب أو باللغة أو بالعلوم العربية فجئنا بما فات نظره من هذه المفردات لم يحجم عن أن يقول: هذه فائدة استفدناها فتكبر بقوله هذا عظمته في أعيينا.
كان عف اللسان لم يسمع منه لاحد شتيمة ولو كان عدوا، صادق اللهجة فلم ينقل عنه غير الصدق مهما تقلبت الأحوال، أبيا للضيم ولكن حلمه يسبق ثورة إبائه فيكف عن ظالمه ما استطاع أو يصفح عنه إن كان أهلا للصفح.
كان عف اليد لا يطمع فيما ليس له ولا يتصرف لنفسه في الأموال العامة التي تقع في يده.
هذه جمعياته في دمشق ومدارسه فيها التي ازدهرت باحسان المحسنين فهل سمع عنه انه دنس يده بقرش واحد من أموالها معاذ الله بل كان يمدها بفضلة ماله جهد المستطاع على قلة ذات يده، كان ذا صبر وجلد على البحث العلمي وكنت تراه وهو يطوف الفيافي بين الشام والعراق وبين العراق وفارس وخراسان طالبا في زوايا خزائنها ما يزود به مؤلفاته العديدة وبما يستريح إليه من الحقائق الراهنة يفعل ذلك وهو في العقد الثامن من عمره وقد وهب شباب ناصيته إلى شباب همته فزادت ضعفين.
فما أعظم النائي الأبيات التي ألقاها الشاعر الشيخ يوسف بري في الحفلة التي اقامتها الجالية العربية في دوترويت ميشغن أميركا الشمالية:
فديتك من أبقيت للعلم والهدى * أبا الطلعة السمحاء والطهر والندى حفيد رسول الله يا غوث أمة * إذا استنجدت من كان غيرك منجدا لقد كنت للاسلام فخرا وعزة * كما كنت للأجيال مجدا وسؤددا إذا سرت سار الحق خلفك شاهرا * حساما على هام الضلال مجردا وتسعى لك الأقوام من كل بلدة * لتلمس منك الثوب أو تلثم اليدا نشرت لواء العلم في ارض عامل * وأنشأت للتهذيب في الشام معهدا نأيت وقد أبقيت للموت روعة * فما أعظم النائي وما أروع الردى كان وقوع الخطب في كل مهجة * دوي من الأعماق يحمله الصدى وتبكي بك الأوطان طهرا وعفة * وذكرا على مر الزمان مخلدا أعزي بك الاسلام والعلم والحجى * فقد كنت للاسلام والعلم سيدا تنوح على مثواك في الغرب أمة * وتفديك بالأرواح لو يقبل الفدا من اخباره الخاصة : قال لمندوب المفوض السامي:
انني موظف عند الله فلا يمكن ان أكون موظفا عند المفوض السامي.
بقلم الأستاذ وجيه بيضون.
اخبار المرء في مآتيه وأحاديثه، وفي نوازعه وميوله، تحسر عن حقيقته في شخصيته بما لا تكشف أحيانا طوال الفصول تبحث هذه الشخصية وتحقق فيها، أو بما لا تستوفي حق جلائها على حقها.
ذلك بان هذه الأخبار المتنوعة من الواقع والصميم تترجم عن خلائق صاحبها وطبائعه ترجمة صحيحة ما تفتا تنجلي بتعددها وتنوعها في أوقات متباينة لا تكون النفسية فيها واحدة بحسب ملابساتها إلى أن تؤدي المعنى الخفي المستبهم والغاية الخالصة الناصحة، وتنشر نافذة النور على الصورة بألوانها المتداخلة المتشابكة.
هذا فضلا عن أن اخبار المرء تختصر الطريق على الباحث فتجعله وجها لوجه تلقاء الحقيقة، وبخاصة حين يلم بهاتيك الاخبار من شتى وجوهها ويعرضها على المقارنة ويربط ما بينها بأسبابها المغيبة.
وهذا هو الذي قصدنا إليه في هذا الحديث عن المغفور له العلامة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين.
قصدنا إلى سرد جملة من اخباره الخاصة المتفرقة كيما نوحي إلى القارئ بلسان الواقع بامتياز قدره وقدر امتيازه.
وقصدنا كذلك إلى أن يكون في اخباره المختلفة في ألوانها ما يحيط بالكلام عن حياته مجتمعة ليكون الحكم آخذا في منزلته من السداد والصواب.
ان صلتي بسماحة المترجم قريبة متصلة، قوية:
جاورته في مسكنه مذ كنت حدثا صغيرا فوقفت على الكثير من حياته. وكنت طالبا في المدرسة العلوية التي أنشأها فما كان يغيب عني شخصه، وأذكر ان سماحته حضر أحد الفحوص السنوية، وكنت ما أزال في العقد الأول، فاستكتبنا املاء، عن اللغة وقيمتها، فكان في جملة ما أجبت ان للغة شأنها الخطير حتى أن الإنسان ليقوم بنسبة ما يتعلم من