أما الفراء فلم يمنع رفع المعطوف، ولم يجوزه مطلقا بل فصل وقال: إن خفى اعراب الاسم يكون مبنيا أو معربا مقدر الاعراب، جاز الحمل على المحل... وإلا فلا. (1) ثم يعرض الفراء لهذا في تفسيره لقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى، فاعرب والصابئون كما يحدثنا الدكتور المخزومي على أنها معطوفة على الذين وعلل اعرابه هذا بان الذين حرف على جهة واحدة في رفعه ونصبه وخفضه، فلما كان اعرابه واحدا، وكان نصب ان ضعيفا، وضعفه انه يقع على الاسم ولا يقع على الخبر، جاز رفع الصابئين.
وطابع الفلسفة واضح على هذه المسألة، كما أن سمة التمحل والتهافت بينة فيها.
ووثق من قول أحد الاعراب، فذهب إلى اسمية نعم وبئس لأنه سمع منه والله ما هي بنعم الولد وجوز اعراب العدد المركب قياسا إذا أضيف استنادا إلى ما سمعه من أبي فقعس الأسدي، وابن هيثم العقيلي:
ما فعلت خمسة عشرك.
تعصبه على سيبويه درس الفراء كتاب سيبويه عن كثب وروية، حتى وجد بعضه تحت وسادته التي كان يجلس عليها، لكنه، وبالرغم من ذلك، كان زائد العصبية على سيبويه، يتعمد مخالفة مذاهبه ومزاعمه في ألقاب الاعراب وتسمية الحروف، وقيل: إنما كان لا يفارق الكتاب لأنه كان يتتبع خطاه ولكنته فإذا صحت هذه القولة ففيها غلو وتعصب واضحان فالكتاب أكبر من أن ينال منه الفراء أو غيره. وبحسبك أن تعلم أنه كان يسمى قرآن النحو.
قالوا عن الفراء...
وهؤلاء الذين قالوا عنه هم اسناد اثبات، أمناء في أحاديثهم ومقولاتهم، ولو رصدت تلك الآراء وتنقلت بينها بأناة وتريث، تجلت لك شخصية الفراء بوضوح.
فهذا أبو بكر الأنباري يقول: لو لم يكن لأهل بغداد من علماء إلا الكسائي والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس وقالوا: النحو للفراء والفراء أمير الأمراء في النحو ويقول أبو العباس أحمد بن يحيى:
لولا الفراء لما كانت عربية، لأنه حصنها وضبطها. وقال السيوطي:
كان متدينا متورعا، على تيه وعجب وتعظم. وابن خلكان يعرض له فيقول: كان أبرع الكوفيين، وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب.
وهذا صاحب كتاب مدرسة الكوفة يقول: أكثر ما كان للكوفيين من آراء إنما هو للفراء.
وقد قضي أكثر سنيه في بغداد، يتطلب العلم جثوا على الركب، بين أروقة الجوامع وأفنية المساجد.
يقول مسلمة بن عاصم: دخلت على الفراء في مرضه، وقد زال عقله، فسمعته يقول: إن نصبا فنصبا، وان رفعا فرفعا.
النقيب أبو جعفر يحيى بن زيد أو ابن أبي زيد الحسني العلوي نقيب البصرة ذكره تلميذه الشيخ عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح النهج فقال: كان النقيب أبو جعفر غزير العلم صحيح العقل منصفا بالجدل غير متعصب فإنه كان علويا وكان يعترف بفضائل الصحابة وكان لا يجحد الفاضل فضله.
وذكره تلميذه المذكور في عدة مواضع من شرح نهج البلاغة وذكر أمورا كثيرة تدل على تشيعه ولم نعثر له على ترجمة في غير شرح النهج وفيما ينقله عنه ابن أبي الحديد دلالة واضحة على غزارة علمه وسعة اطلاعه.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج بعد أن تكلم على سياسة أمير المؤمنين علي ع كان أبو جعفر بن أبي زيد الحسيني نقيب البصرة إذا حدثناه في هذا يقول أنه لا فرق عند من قرأ السيرة بين سيرة النبي ص وسياسة أصحابه أيام حياته وبين سيرة أمير المؤمنين ع وسياسة أصحابه أيام حياته فكما أن عليا لم يزل امره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه وكثرة الفتن والحروب كذلك كان النبي ص لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين وأذاهم وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه وكثرة الحروب والفتن. وكان يقول أ لست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين والشكوى منهم والتالم من أذاهم له كما أن كلام علي ع مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه والتالم من أذاهم له وإلتوائهم عليه نحو قوله تعالى: أ لم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير وقوله انما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا الآية وقوله إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون اتخذوا ايمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله انهم ساء ما كانوا يعملون السورة بأجمعها. وقوله: ومنهم يستمع إليك حتى إذا اخرجوا من عندك قال الذين أوتوا العلم ما ذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم. وقوله: رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم. وقوله: أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله اضغانهم ولو نشاء لأرينا لهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم وقوله: سيقول المخلفون من الاعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قل فمن يملك لكم من الله شيئا أن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا بل كان الله بما تعملون خبيرا بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم ابدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا. وقوله: سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم كثيرة لتأخذوها