وما تم من هذا المؤلف إلى وفاته خمس وثلاثون مجلدة، وكل مجلدة تتراوح بين الأربعمئة والخمسمئة صفحة.
وكأني بامامنا الفقيد قد استهدف في هذا المؤلف ابراز ناحية من التاريخ طمست عليها الأجيال المتعاقبة بسياساتها المغرضة، تلك هي ناحية الفضل المغموط، فضل الشيعة في خدمة العروبة والاسلام عن طريق الجهاد والاجتهاد والعلم والأدب والدين.
ومثل هذه الغاية لا يتوفر على مثلها الا مثل الامام الفقيد ولا يوفيها حقها من التحقيق غيره، بما امتاز به من تجرد في البحث، وتبحر في علم الرجال، وجلد ومصابرة على المطالعة والمراجعة.
على أن الصفة الغالبة على آثار السيد الأمين هي الاستقصاء والتحقيق وليست هذه الصفة باليسيرة لأن في تراثنا الفكري كنوزا مغيبة وذخائر دفينة لم تمتد يد الكشف الا إلى النزر القليل منها، والكشف عنها يتطلب الصبر الطويل في التتبع المتواصل والرجوع إلى المظان والمصادر في شتى المكتبات في مختلف الأقطار، ثم تنقيتها والحسر عن وجهها الحق.
وإذا نحن قابلنا هذه الطريقة بالطريقة التحليلية لاحت لنا وجوه الاختلاف المتباعدة لأن الأولى تقوم على الجمع بينما الأخرى لا تقوم الا على التفكير. ولكن الطريقتين تعودان للتقارب حين نذكر ان إحداهما معوان للأخرى. والجامعون بين الطريقتين نوادر جدا. لأن من أوتوا موهبة التعمق في البحث والتحليل والمقارنة لا طاقة لهم على جهد الاستقصاء وعنت المراجعات المتفرقة. وكذلك من يجمعون الشتات ويؤلفون بينها ويصطادون الشوارد ويحققون لمن يتخطوا هذه الحدود. وأنت غير واجد لعلامتنا المترجم شبيها بين المؤلفين المعاصرين في طول باعه بعلم التراجم والجلد الدائب.
والتضحية بالوقت والمال. والتجرد في العقيدة العلمية. لقد سلخ في سبيل مؤلفه أعيان الشيعة وحده فوق الثلاثين عاما في التقصي والمراجعة حتى أنه رحل إلى العراق فإيران باحثا منقبا في مكتباتها وكان لا ينتهي إليه خبر كتاب يفيده في بعض شانه الا بذل بذل السخاء في اقتنائه أو استنساخه، حتى اجتمعت إليه مادة غنية لم تجتمع لسواه اعانته في الكشف الجديد كما وقع له في ديوان أبي فراس الحمداني إذ محض العربية بطائفة تبلغ الثلث من شعره لم تكن معروفة حتى من خاصة الخاصة.
هذا وله تصويبات في أمور التاريخ تدل على عبقرية الاطلاع ودقة الملاحظة التي تنزل صاحبها من سواه منزلة الناقد المتمكن المستبحر ان لم تكن منزلة الأستاذية القادرة.
وللمترجم من الشعر ما يسلكه بكهار الشعراء، وقد امتاز بالفخر والنسيب، زد على ذلك وجدانياته التي تخيل للقارئ ان قائلها قد برح به سقام الغرام، ووقف شعره على الهيام.
ان التاريخ العربي في عصرنا الأخير سيذكر الامام الأمين في الطليعة المتقدمة إذ يذكر الشخصيات العلمية والفكرية والأدبية، وسيحيطه بهالة من الاجلال والاكبار لامتيازاته المتعددة التي لا يهبها الله الا للمختارين النادرين.
من مراثيه للسيد عبد الحسين فضل الله في رثائه:
يا عظيما أطفأ الموت به * شعلة الكون ومصباح الأمم منبر الارشاد لو يدري بمن * فجع اليوم لاجرى الدمع دم والمصلى لو وعى مسمعه * صرخة اصمت الصخر الأصم المعلم الأول بقلم: الأستاذ جان جبور في كل نهار من دغدغة الأرض بالأنوار الفاترة حتى غفوتها على شذا الليل، وفي كل ليل، من غرة راحة الأرض حتى عودتها إلى معركة اللقمة.
تخمد ألوف من الأنفاس وتنطفئ ألوف من العيون، فيلتاع المصابون على الجواهر التي تلاشت، فالربيع قد جف زهرا وطيبا، والبيت وقد اقلع عنه شراع الآمال، صحراء فسيحة قاحلة.
وفي كل نهار من ظهور الشمس تتغطرس في اليم الأزرق السابح فوق الرؤوس، حتى تذلها العتمة، وفي كل ليل، من انتشار الفرسان الشقر يتهادون عجبا في السماء، حتى يطلع عليهم الصباح، فيهربون من الميدان، يأتي إلى العالم ألوف من الخلائق فتتبلور شاهقات الأماني وتزغرد الأرض في مطاوي سرها، هي لن تجوع غدا، وهي إن جادت اليوم بسنبلة، وسمحت بجفنة، فسوف تهدم، قبالة هذا الاغداق في العطاء، والغلو في الكرم، هيكلا تغذي في السنبلة وقلبا ارتوى من الجفنة.
وبين هذا الانطفاء وهذا الاتقاد الاعتياديين، تفقد البشرية في يوم عصيب، عينا من أعيانها، ومعلما من معلميها، وجنديا من جنود الله.
ففي كل جفن عدو وراء الثروة التي فقدت، وفي كل أذن شوق إلى الكلمة التي سكتت، وعلى كل شفة لما ذا وبقاؤه ضرورة والخيال هذه الطائرة الضاربة اطنابها فوق اللامحدود وهو رفيق فراشة حول مصباح، وصمت جناح وقد ركد. والبشرية في وحدة، وترتسم علامات الرجاء على الأفق حتى كرم جديد من الخالق!
وعبر التاريخ في عب اثينا، تجمهر حول سقراط، تلامذته يضرعون إليه، ان يفر من السجن وينجو بنفسه وهو يرفض. قد حكم عليه باختصار حياته فابى الافلات من يد العدالة ومشى إلى اجتراع السم كأنه يمشي إلى مادبة ويسير إلى وليمة.
ويقول عن سقراط تلامذته انه في ثباته أمام القضاء ورباطة جأشه امام نكبته، جرد الموت من رعبه ونزع عنه صلافته، وعراه من عظمته وأرسله مهيض الكرامة ذليل العنفوان يتماجن عليه الناس ويتلهون به عندما يصبحون اخوة لأوراق الشجر في أيام البرد وقد تركت أمهاتها علامات رجاء سمراء في الفضاء الرحب نحو مبدع الكائنات.
إما سقراط فكان وقد قرر ان الاذعان للعدل هو العدل يتعلم العزف على الكمان بانتظار ساعة تنفيذ العقوبة به ليضيف إلى معرفته معرفة جديدة.
وعبر المسافة بين يوم سقراط ويومنا، وقد تكون أقرب من المسافة بين العين المبصرة وما تبصر، وقد تكون ابعد من المسافة بين المؤمن بالله وبالخير، وبين الكافر بالله وبخيره يتوارى السيد محسن الأمين المجتهد الأكبر، وهو