ويمشيان رويدا بكل وقار حتى وصلا إلى قريب الباب ثم عادا يقولان الحرامي راح.
مرض الحمى في النجف ومن الحوادث التي وقعت في النجف أيام وجودنا فيها انتشار الحمى حتى بلغت الوفيات بها إلى الأربعين وكانت تخرج في العليل أسفل معدته حبة كبيرة صلبة وكل من خرجت فيه هذه الحبة مات الا الشيخ محمد حرز فقد خرجت فيه وسلم ومرض بها جماعة من العامليين منهم من مات ومنهم من سلم وكان بعضهم لا أهل لهم ولا عيال ولا أحد يمرضهم فاستعنت بالشيخ موسى قبلان على الطواف عليهم كل يوم لتمريضهم فأجاب مسرعا فبدأنا بالشيخ مصطفى البعلبكي فوجدناه في حجرة في دار ملقى على فراشه كأنه خشبة ومعه في الدار رجل عاملي لا يدنو منه ويتباعد عنه ولا يدخل الدار خوفا من العدوي فقلت للشيخ موسى انا اشتغل بالأمور الداخلية وأنت بالأمور الخارجية فذهب ليحضر الطبيب ثم يأتي بالدواء وقمت انا بدوري فغسلت الأواني وأشعلت النار وكنست الحجرة وهيأت كل ما يلزم بكل سرور واقبال متمثلا في نفسي قول القائل:
ان الكريم وأبيك يعتمل * ان لم يجد يوما على من يتكل وقول من قال الحر معوان وما عتم الشيخ موسى ان جاء بالطبيب فوصف للمريض الحقنة وللغذاء ماء اللحم فذهب الشيخ للسوق واحضر اللحم وهيأت انا لوازم الحقنة بعد طبخها وتصفيتها وتبريدها واحضر الشيخ المحقان معه وهو أنبوب من الزجاج طويل يصب فيه الدواء فقلت للشيخ هل تحقنه أنت قال إني أستطيع كل شئ عدا أمر هذه فليس في استطاعتي ابدا وهنا حصلت المشكلة فانا وان كنت موطنا نفسي على كل عمل لكن أمر هذه الحقنة صعب علي لأني لم أباشرها قبل هذا لا سيما بهذا المحقان الطويل الذي يبلغ طوله نحو ذراع ولا سيما ان العليل يأبى ذلك وهو رجل جسيم ولما كان لا مناص لي من ذلك أقدمت عليه وقاسيت فيه كل صعوبة ثم انتقلنا إلى غيره ممن لا ممرض لهم وكان إذا توفي أحد العامليين تولينا انا والشيخ موسى المذكور تجهيزه وتشييعه إلى مقره الأخير.
ابن عمنا السيد جواد وبهذه الحمى توفي قريبنا السيد جواد حفيد صاحب مفتاح الكرامة وكان شهما فاضلا فكانت المصيبة به عظيمة وأقيم مجلس فاتحة حضره علماء النجف وأدباؤه ووجهاؤه ورثته الشعراء ومن رثاه هذا الفقير بقصيدة مذكورة بالرحيق المختوم.
مجئ الوالد للعراق بعد سفري للعراق بمدة ضاقت نفس والدي وهو في جبل عامل شيخ كبير السن مكفوف البصر يسكن بين أهل الغلظة والجفاء مع ابنتين وكانت له زوجة توفيت وليس له معين الا الله فكتب إلي انه لا يرخصني في البقاء وانه لا يستطيع البقاء هكذا فاما ان تحضر إلى هنا وتترك النجف أو تحضر وتحضرني إلى النجف. فاسودت الدنيا في وجهي وخيرت بين أمرين ليس لي في أحدهما خيرة. تركي النجف يضيع علي كل ما عملته واحضاري له إلى النجف يستدعي نفقات كثيرة فعزمت على الأمر الثاني مع ما فيه من المشقات فدخلت الحضرة الشريفة وتضرعت إلى الله تعالى ودعوته في كشف هذه الغمة عني وارضاء والدي عني فلما دارت الجمعة جاءني منه كتاب يخبرني فيه ان ما كتب به أولا كان ناشئا عن ضيق صدره لقلة المعين وقد سلم امره لله وصبر فلا عليك ان تبقى مواظبا على درسك ولا تهتم من أمري بشئ فحمدت الله على ذلك ولكن نفسي بقيت مضطربة مغتمة فسلمت أمري إلى الله تعالى وتوكلت عليه وصبرت فقرت نفسي بعض القرار لكنني بقيت في غم واضطراب مشتغل البال في هذه الحال الذي عليها والدي حتى مضى على ذلك سنوات فكان من فضل الله ونعمه المتتابعة علي ان يسر لوالدي السفر إلى العراق مع ما هو عليه من الضعف والعجز مخدوما مرفها مكرما مع جماعة من أهل جبل عامل من خيرة الناس حتى أنه قال لي لو كنت معي مع عدة أولاد لي لما خدمت هذه الخدمة فجاءتني يوما برقية ولكنها مغلوطة لكنه يفهم منها ان الوالد متوجه إلينا أو سيتوجه وكان في غلطها رحمة ومصلحة لنا وذلك لأنه لولا غلطها لذهبنا إلى بغداد لاستقباله والحال انه جاء لكربلاء و لم يمر ببغداد لكون فيضان الفرات قد قطع الطريق إلى بغداد فجئنا إلى كربلاء في زيارة عرفة بين الشك واليقين وفي اليوم الثاني ورد كربلاء ففرحنا بقدومه.
وجاءنا في كربلاء الشيخ محمد طه نجف زائرا لوالدي وهناني بقدومه وقال لي ان قدومه صار يبشرنا بطول اقامتك عندنا. وأقام الوالد في العراق عدة سنين كان مشغولا في خلالها بالعبادة والدعاء وزار كربلاء مرارا عديدة وقال لي بعض الاخوان حينما أراك تأخذ والدك إلى الحضرة الشريفة أغبطك على هذه النعمة.
الغلاء في العراق وحصل غلاء في العراق ثلاث سنين وبلغت العائلة سبعة أنفس وصادف حصول قحط في جبل عامل فكان يأتينا في كل سنة خمس ليرات عثمانية وما ذا تصنع خمس ليرات مع سبعة أنفس وما كان مورد سواها. ولا يصلني من أحد شئ ولا عودت نفسي على التوسل إلى أحد ففي السنة الأولى بعنا بعض الأثاث الذي يمكن الاستغناء عنه لا المستغنى عنه واقتصدنا في النفقة فاكتفينا بالأرز الحويزاوي عن الشنبة والنعيمة ومضت تلك السنة والغلاء في العراق والقحط في جبل عامل مستمران حتى بلغت وزنة الأرز وهي ثمانون اقة إستانبولية ليرة عثمانية وقرانين إيرانيين ومثلها وزنة الحنطة وكذلك باقي الحاجيات ونحن كما كنا سابقا في ملازمة الدرس والتعفف عن الناس وعدم المبالاة بالغلاء كأنه لم يكن فبعنا في السنة الثانية بعض الكتب التي يمكن الاستغناء عنها لا المستغنى عنها ومضت تلك السنة كالتي قبلها وجاءت السنة الثالثة كسابقتيها أو أشد فبعنا حلي العيال وجاءت السنة الرابعة وليس عندنا ما يباع لا من أثاث ولا كتب ولا حلى والغلاء والقحط مستمران ونحن على الحالة التي كنا عليها لم نغير شيئا ولم يتغير علينا شئ وزادت العائلة ونحن لا نبالي بشئ من ذلك مواظبون على مطالعتنا ودروسنا كان لم يكن من ذلك شئ وقد علم الله تعالى ما نحن فيه وما انطوت عليه النفس فلم يدعنا وتفضل وانعم كجاري عادته معنا ومن لم يغير عادته مع الله تعالى فحاش لله ان يغير عادته معه فبينا انا جالس للمطالعة عند العصر فإذا برجل يطرق الباب فخرجت فإذا هو الشيخ عبد اللطيف شبلي العاملي الحداثي رحمه الله فناولني كتابا فإذا هو من رجل يسمى الشيخ محمد سلامة العاملي فيه انه أعطاه الحاج حسين مقداد عشر ليرات عثمانية ذهبا أو أكثر ليرسلها لنا ولم أكن اعرف هذا الرجل ولا