والعقل المستفاد والعقل بالفعل ووجه الضبط ان مراتب النفس من بداية الاستكمال إلى نهايته إما استعداد الكمال أو نفس الكمال، والاستعداد، إما استعداد محض فهو العقل الهيولاني، تشبيها في خلوه عن جميح الصور العقلية الكمالية بالهيولي الأولى الخالية في ذاتها عن جميع الصور الجسمية، وإما استعداد الاكتساب، فهو العقل بالملكة وهو عقل استعداد كسب النظريات المعقولة من أوليات معقولة، بالفكر أو بالحدس، وإما استعداد الاستحضار، وهو العقل بالفعل وهو عقل استعداد استحضار النظريات المكتسبة المخزونة متى شاء بمجرد الالتفات إليها من دون حاجة إلى تجديد النظر، واما مرتبة نفس الكمال فهي بعد انتهاء درجات الاستعداد إلى درجة الفعلية الكاملة فمتى صارت النظريات حاصلة لدى النفس واستحضرت المعلومات مشاهدة إياها مستفادة من العقل الفعال يقال لها العقل المستفاد.
والثانية قوة عملية، بها تستنبط النفس واجبها فيما يجب ان تفعل وللنفس بحسب هذه القوة العمالة أيضا أربع مراتب وهي التجلية فالتخلية فالتحلية، فالفناء. والتجلية، تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع النبوية والنواميس الآلهية، والتخلية تهذيب الباطن عن الأخلاق السيئة والملكات الردية، والتحلية ان تتحلى النفس الناطقة المهذبة بالفضائل النفسية ومكارم الأخلاق، والفناء هو الوصول في العمل إلى ما ينطبق عليه الاعتقاد بمراتب التوحيد من توحيد الذات وتوحيد الصفات وتوحيد الافعال وتوحيد الآثار.
هذه صورة مصغرة من بعض آراء الكندي في الفلسفة، ولكن بعض مؤرخي الفلسفة وقع تحت تأثير دعايات أعداء الكندي فلا يميل إلى الاخذ بالرأي القائل بان الكندي أبدع مذهبا مستقلا في الفلسفة.
أعداء الكندي.
كان للكندي أعداء كثيرون، شأن كل العباقرة المبرزين في العلوم والفنون، وقد استطاعوا ان يضروه في سمعته العلمية والدينية وفي حياته الخاصة، فمن هؤلاء الأعداء أبو معشر المنجم، جعفر بن محمد بن عمر البلخي قال ابن النديم، كان أبو معشر أولا من أصحاب الحديث، وكان يضاغن الكندي ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة فدس عليه الكندي من حسن له النظر في علوم الحساب والهندسة فدخل في ذلك فلم يكمل له فعدل إلى النجوم وانقطع شره عن الكندي وقيل إنه أصبح أحد تلاميذه الممتازين ويقال: انه تعلم النجوم بعد سبع وأربعين سنة من عمره وكان فاضلا حسن الإصابة وضربه المستعين العباسي أسواطا لأنه أصاب في شئ خبره بكونه قبل وقوعه، فكان يقول:
أصبت وعوقبت.
ومن أعداء الكندي العالمان العلمان محمد واحمد ابنا موسى بن شاكر، اللذان دسا للكندي عند المتوكل، وساعدهما أولا ما نسب إلى الكندي من الآراء الاعتزالية، وثانيا حماقة المتوكل وتسرعه، فضربه وأرسل إلى منزله من استولوا على كتبه، ثم ردت إليه كل هذه الكتب بعد زمن كما ذكر ذلك ابن أبي أصيبعة في قصة طويلة ولكن فاته ان غضب المتوكل على الكندي كان لأجل اتهامه بالتشيع حيث أخبر ان الكندي تعلم من الإمام الحسن العسكري تفسير القرآن الكريم وأصول الاسلام.
ومن الذين تأثروا بكتابة أعدائه المعاصرين له أبو القاسم صاعد بن أحمد الذي حمل على الكندي فيما بعد في كتاب طبقات الأمم ووصف كتبه بأنها لا تفيد المطلعين عليها لكونها تشتمل على كليات غامضة ليس فيها تحليل للجزئيات، ولكون تراكيبها غامضة معماة لا يستفيد منها الا من مرن على دراسة المنطق حتى أصبح عنده مقدمات عتيدة تمكنه من فهمها، ويضيف إلى هذه المعاني قوله: ولا أدري ما حمل يعقوب على الاضراب عن هذه الصناعة الجليلة، هل جهل مقدارها أو ضن على الناس بكشفه؟ وأي هذين كان فله نقص فيه، وله بعد هذا رسائل كثيرة في علوم جمة ظهرت له فيها آراء فاسدة، ومذاهب بعيدة عن الحقيقة . ويعلق ابن أبي أصيبعة على رأي هذا القاضي المغرض أو المقلد في الجزء الأول من كتاب عيون الأنباء بقوله: أقول: هذا الذي قد قاله القاضي صاعد عن الكندي فيه تحامل كثير عليه، وليس ذلك مما يحط من علم، الكندي ولا مما يصد الناس عن النظر في كتبه والانتفاع بها.
وعلى الرغم من هذه الدسائس التي حاكها أعداء الكندي، فان اسمه ظل نجما ساطعا في تاريخ الفلسفة العربية، وبقي امام الفلاسفة وأول المتبحرين في الحكمة.
وقال بعض المغرضين: كان الكندي يقول بوحدة واجب الوجود وبساطة وجوده ومعنى هذا انكار الصفات بتاتا كما يقول المعتزلة لأنها تجر إلى تعدد القدماء الذي هو لازم مذهب الأشاعرة، فتأثر الكندي بالمعتزلة وصرح بان الله قادر بذاته عالم بذاته وهلم جرا. ولا شك ان أرسطو قد سبق المعتزلة إلى نفي جميع الصفات عن الباري.
وزاد عليه بعض آخر بقوله: ان انكار الصفات بتاتا انكار لنصوص القرآن العظيم، وخروج عن الاسلام واتجاه إلى الكفر والالحاد.
أقول: إن المغرضين اعترفوا بان الكندي قائل بوحدة واجب الوجود وبساطة وجوده، وان الله قادر بذاته وعالم بذاته ولم يتفطنوا ان الكندي يقول أيضا: ان واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات، فصفاته الحقيقية كالحياة والبقاء والعلم والقدرة وغيرها كلها صفات واجبة وذاتية وليست من قبيل صفات الممكنات زائدة على الذات.
وهذا الرأي للكندي اتجاه إلى التوحيد الكامل وهو توحيد الذات وتوحيد الصفات، وليس فيه اتجاه إلى الالحاد وانكار الخالق العظيم فالمعترضون على الكندي لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها فيحق عليهم قوله تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون.
وقال الدكتور قدري طوقان:
رأى الكندي بثاقب نظره ان الاشتغال في الكيمياء للحصول على