والاحقاد. كان لنا نبراسا يضئ في المدلهمات والملمات وقبسا يشع نوره في مختلف الحادثات ولا أنكر اننا كنا نلاقي مثل هذا التأييد والتشجيع من بعض رجال الدين الآخرين على اختلاف المذاهب والطوائف الذين يستشعرون واجباتهم الدينية والدنيوية. غير أن ما كان يتمتع به الامام العلامة السيد محسن من الزعامة والقوة والحب العميق من جميع من عرفه واجتمع إليه من اخوانه ورجاله وأبناء عشيرته وغيرهم، كانت هذه الزعامة والحب قوة لنا لمتابعة الجهاد والنضال دون تردد أو ضعف وكانت مجالسه كلها التي نغشاها من حين إلى آخر مجالا للدعوة الصالحة في وجوب التضامن والائتلاف ونبذ السخائم والخلافات والترفع عن الدنايا والاسفاف. وكان بهذه القوة التي يعمرها الايمان يحارب الكثير من الصغائر والسخافات داعيا لترك العادات التي ما انزل الله بها من سلطان وهي تصد المسلمين عن اصلاح دينهم ودنياهم. هذه الأعمال والخرافات التي لا تتفق مع ما دعا إليه الدين الحنيف من العمل الصالح والبذل والتضحية لخدمة المجتمع بالنية الصالحة والقدوة الحسنة وكان يقول لنا أنتم المسؤولون أمام الله عن هؤلاء الذين وثقوا بكم فكونوا عند حسن ظنهم في القول والعمل وما أتى امرؤ عملا صالحا الا واثابه الله في دنياه وآخرته. وكان لدعوته هذه الأثر البالغ في النفوس لأنها صادرة عن قلب ملؤه الايمان والاخلاص. كان أسبع الله عليه رحمته ورضوانه زاهدا في مباهج الدنيا وزخارفها عزوفا عن المظاهر الفارغة والدعايات الباطلة واني لاذكر ان الإفرنسيين حاولوا كثيرا استمالته إليهم بشتى الوسائل المغرية وعرضوا عليه دارا فخمة يقيم بها وراتبا ضخما يتقاضاه منهم فردهم ردا عنيفا واعرض عنهم ولم يبال بهم وبقوتهم وكان لهذا كله أعظم تأثير لدى الذين يتصلون به ويعرفون مناقبه وفضائله ويستمعون إلى أحاديثه النافعة ونصائحه الغالية مع ما يتخللها من الأبحاث العلمية النافعة والمواضيع الدينية الثمينة فقد كنت كما يعلم الله استشعر راحة ولذة لا تعدلها لذة حينما أرى هذا الوجه النير والتواضع الجم والحديث الممتع والنصائح الغالية والابحاث الدينية والعلمية الواسعة في داره المتواضعة بين الكتب والمحابر.
لقد ترك فقده رضوان الله عليه فراغا واسعا يصعب املاؤه لأنه كان نادرة الدهر ومفخرة العصر اسكنه الله فسيح جناته واثابه عدد حسناته وعوض المسلمين من أمثاله العاملين الصالحين خيرا وانا لله وانا إليه راجعون.
المؤلف بقلم: الدكتور حكمت هاشم (1) اعتذر من الاعتراف لكم، سادتي، أن قد شاع في سري غرور عذب، ولكن أمنية الطامع لم تبلغ بي وأنا من هذا على أتم الوثوق حد التشوف إلى مقعد كان يتبوؤه قبلي امام جهبذ ومجتهد فحل مثل رصيفكم الراحل السيد محسن الأمين رضي الله عنه وطيب ثراه. فلما شئتم، باقتراعكم المفضل، ان تحلوا الخلف محل السلف على ما يبدو لديهما من فارق النزعة وتباين القدر لم أتبين سائقا يحدو بكم على ما صنعتم غير الاستمساك برمز أرجو الا أكون مخطئا في استخراج مغزاه: وهو تكريم الأمانة للفكرة، وتمجيد الوفاء للعقيدة مذ تستهويان قلب من آمن بهما عن اخلاص ووعي وبصيرة. فلا يصرفه عن التزامهما صارف ولا يجد عن الصدع بهما محيدا. وأحسب، سادتي، من نافلة القول إن أقرر لكم ان حب آل محمد ص هو فيما يتصل بتلك الحياة الغنية الخصبة الفياضة الصالحة التي قضاها زميلكم العظيم نقطة البداية وغاية الغاية. فائذنوا لي ما دام علي ان أستثير أمامكم ذكراها، أن اقف أمامكم أجيل الطرف في بعض حناياها، واغفروا لي ان عشيت العين الكليلة عن ادراك السني اللألاء الذي تشع به مزاياها.
يشاء القدر ان يولد زميلكم منذ نحو قرن بشقرا من اعمال مرجعيون في جبل عامل ذلك الذي يقال إن المتشيع الأول أبا ذر الغفاري اتخذه ملجأ بعد ان أخرجه معاوية إلى القرى. ويشاء البخت السعيد ان يتصل نسبه بالحسين السبط الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء بنت رسول الله ص وبضعته فكيف، والعرق دساس، لا يفعل الدم النبيل الذي تمور به شرايين نابغة كمثله في صوع وجوده على النحو الذي صيغ فيه؟ ولم لا يهيب به هذا الدم إلى موالاة ما اتصل ولم يتراخ من سلسلة الشرف والمعرفة والرياسة؟
لقد سمع من ذويه، وهو في غضارة السن، أن مما من الله به على العشيرة عدم انقطاع العلماء والفضلاء منها في القديم والحديث. أ ليس فيما رووا انه منحدر من صلب ذي الدمعة المدفون بالحلة السيفية الذي لم تجف عبرته من خشية الله؟ أ وليس ذلك الزاهد التقي هو ابن زيد الشهيد؟ أ وليس زيد هذا بولد الإمام زين العابدين الذي بلغ من جلالته ان مسلم بن عقبة، بعد وقعة الحرة، نكص عن اخذ بيعته ليزيد الا على أنه اخوه وابن عمه على حين بايع فيها أهل المدينة على أنهم عبيد رق ليزيد؟ أ وليس هو الذي تهيبه خمسة من خلفاء بني أمية فلم يجسروا على التعرض لمدرسته التي أقامها في داره لتكون خلال خمس وثلاثين سنة ينبوع الحديث والعلم والرواية لأمثال الزهري وسفيان بن عيينة ونافع والأوزاعي ومقاتل والواقدي ومحمد بن إسحاق وكثير من الصحابة والتابعين؟ ثم أ لم يكن أجداد مترجمنا الأقربون بعد نزوحهم من العراق موضع التقديم والتجلة في قومهم حتى لكانوا أصحاب المنزلة الرفيعة عند أمراء بلاد بشارة الممتدة من الليطاني إلى تخم صفد والمترامية بين شاطئ البحر الشامي إلى الأردن وطرف البقاع؟ هذا مسجد قريته الجامع يعيد عليه رسم بانيه جد جده الوجيه الفقيه المتقن السيد موسى بن حيدر المكنى بأبي الحسن فيؤخذ بمرآه وهو يؤم الأمير الجليل ناصيف بن نصار في صلاة الجمعة ووراءه خلق لا يحصى من أهل الأصقاع المجاورة. وهذا أبو جده الأدنى عمدة الرؤساء السيد محمد الأمين يروى له عنه ان والي عكا احمد الجزار لم يجد أحدا سواه يفاوضه على عودة أهل البلاد الذين فروا في وجهه لما نهب مالهم واستصفى عقارهم وأحرق خزائن كتبهم. لكأني بالصبي وهو يستمع إلى خبر الشيخ الصافي النحيزة الذي وضع ابنه رهينة على وعد قطعه ومع ذلك لم يسلم من اذى الطاغية بالذي ما نكث له بعهد، ولكنه لا يلبث ان تشرق أساريره بشرا ويشمخ عرنينه فخرا مذ يعلم حسن تلطف الفتى الطليق للوالي ونجاحه في فك اسار والده الذي جزي بنفيه إلى دمشق جزاء سنمار... ان هذا الفتى النبيه الجرئ هو السيد علي جد السيد محسن.
ولعل الحفيد الصغير كان يداخله زهو بالغ من سيرة الشاب الهمام المقدام.
أ لم يتلمح من ثنايا تلك السيرة وجه صاحبها الرائع فيتعرف فيما يطالعه منه