طعامه غير حافل برفاهية ماكل أو مشرب، ولا ملتفت إلى زينة في شارة أو كسوة... كذلك شأن العظماء ينكرون ما اسماه نيتشه فلسفة الخياطين فلا يؤمنون ان الثوب يخلق الراهب، ولا ان الزنار المفضض خير من الذكر الحسن!...
ولقد صوروا ما رأوا فيه من ورع وتقوى وعفة يد ولسان، وشهدوا ان الآلاف ذهبا. كانت ترد عليه فما يمسها ويحولها للحال إلى وجوه الخير بل ربما أنفق ماله على تأسيس المدارس ووقفها في عصر أذل فيه الحرص أعناق الرجال... كذلك شأن الزاهدين الأصفياء أزكياء النفوس يحقرون الاستكثار ويانفون من التكالب على الرزق، لانهم لا يقيسون الفضل بذلك المقياس العجيب الذي حدثنا عنه يوما أحد عمداء العلم وأسماه مقياس عدد الأصفار!
ثم هم أطبقوا على جودة رأيه وشجاعة قلبه وثبات جنانه وتحرره من العصبية والجمود ونهوضه بما يعتقد انه حق... كذلك شأن الروحانيين المخلصين لا يدارون في فكرتهم ولا يداجون ولا يصانعون ولا يتلمسون مجدا رخيصا قائما على تملق العامة واسترضاء الدهماء، ذلك بأنهم أدركوا سر تلك الحكمة العسجدية المنقوشة في صدر تريستان وايزولت والتي تصلح شعارا للمثاليين جميعا من كل جلدة: ما لا يقدر عليه السحرة، فباستطاعة القلب ان يأتي به بقوة الحب والبطولة!
سادتي، رحم الله زميلكم ما أروع سحر الانسجام في علمه وعمله! أ لم يكن ذا قلب كبير يفيض بالبطولة وبالمحبة؟
من مراثيه للشيخ راغب العثماني في رثائه:
ترك الجفون تسح بالعبرات * عظم الأسى وتراكم الحسرات رزء على الاسلام جل مصابه * وهوت سماء نجومه النضرات يا خادم العلم الشريف وصاحب * العقل الحصيف وجامع الحسنات من كان بعدك للشريعة واقفا * بالحزم بين زواجر وعظات من كان بعدك في الاله مجاهدا * أهل الهوى والزيغ والشبهات الزعيم الديني الأوحد الذي يعرف دار المفوض السامي بقلم: الأستاذ حسين مروه ميزتان امتاز بهما الفقيد الكبير تغنيان الباحث عن كل ميزة له سواهما، وتغنيان ذكراه نفسها عن كل مجد يذكره له الناس فيما سيذكرون من أمجاد.
ميزتان هما: أولا، ان السيد محسن الأمين هو الزعيم الديني الأوحد الذي لم يعرف، قط دار المفوض السامي الفرنسي في بيروت، ولا دار المندوبية الفرنسية بدمشق طوال عهد الانتداب الدائر، وهو الزعيم الديني الأوحد الذي لم يعرف، قط، وجه فرنسي واحد معرفة غيره لهاتيك الوجوه التي كانت تعنو لها وجوه القوم هنا وهناك من كل لون...
وهل كان السيد محسن الأمين، غني اليد بكفيه ماله وغناه هو ان الوقوف على اعتاب الحاكمين المسيطرين؟
لا، ولكن كان السيد محسن الأمين غني النفس من وطنية وعزة وكرامة وإباء، وكان غني العقل من نور وسعة وشمول وانفتاح للحياة، وكان غني القلب من تسامح وثقة بالله وحق الوطن بالاستقلال والسيادة والانعتاق.
كان السيد محسن الأمين غنيا بهذا كله، فلم يعرف دارا ولا وجها للحاكمين المسيطرين، ولكن عرف وجوه جميع الوطنيين الذين كانوا يناهضون الانتداب ويجاهدونه ويثيرون بوجهه العواصف والأعاصير عرف تلك الوجوه جميعا في سوريا ولبنان، وما يزال منهم ذاكرون يذكرون كيف كانت تعقد الحلقات الوطنية في دمشق برعايته وتوجيهه كلما اشتدت أزمة أو هاج أعصار.
وثانية الميزتين ان السيد محسن الأمين كان حربا دائمة على البدع والأوهام والشعوذات والخرافات تدخل عقول الناس في الدين أو في العلم أو في الوطنية جميعا.
وكانت حربه للبدع والأوهام والشعوذات والخرافات كلها، حربا جريئة صريحة عنيفة، لا يعوزها عنصر البطولة والمغامرة، وهل نسي الناس، بعد، قصة الحرب الشديدة التي أعلنها، منذ سنوات، على ما أضيف من بدع وأضاليل إلى ذكرى الامام الشهيد الحسين بن علي؟ وهل نسي الناس كيف وقف في المعركة هذه، جريئا صريحا عنيفا لا يبرح مكانه، ولا يرهب صولة الصائلين وتهاويل المهولين، حتى أوتي النصر المبين، فكانت حربه هذه خطوة اصلاحية هلل لها الأحرار الوطنيون المخلصون، وانبروا يناصرونه فيها بالأقلام والألسنة بحرارة وايمان واستبسال؟
ترى، هل تنبثق الاحداث عن زعيم ديني يسد فراع هذا الزعيم الراحل، بميزتين كميزتيه العظيمتين: الوطنية المنيعة الرفيعة، والفكر التقدمي المستنير.
المصلح بقلم: الدكتور أسعد الحكيم لقد اجتمعنا الآن في هذه الروضة العلمية الزاهرة، التي تؤتي اكلها اسلاما صحيحا ووطنية صادقة، وعلما نافعا، واخلاقا فاضلة. وكل نبت من نباتها وكل حجر من احجارها، شاهد حي على الدهر ينطق بفضل مؤسسها، المحسن الأمين. ويشترك معنا في هذه الحفلة التذكارية التي اجتمعنا فيها لنوفي نفسا عزيزة علينا اجر عملها، وهل جزاء الاحسان الا الاحسان لا لعلم جم وعاه صدره فقط ففوق كل ذي علم عليم وكم