قامة ممشوقة انتظمت على جسم لا هو بالرهل البدين ولا الضاوي القضيف ولا البائن الطويل أو القصير المتردد... تعلوه هامة معمرة كهامات أمثاله العظماء بما ضمت من تلافيف وشعاب حتى كأنها هيئت لدورها تهيئة الآلة التي يطلب منها الجد الدائب والعمل الواصب. فإذا انحدرت قليلا قابلتك جبهة عريضة ناتئة المستهل، متضاعفة الأسارير، كأنما اثرت فيها شدة الإطراق والإمعان أو هي قد ثقلت بما احتملت فأطلت على عينين واسعتين سوداوين انقى من بريق الأمواج في التماع الذكاء، وأقوى من تيار البحر في ايحاء الوداعة والمهابة معا... تحميها أهداب مريشة من تحت حاجبين مزجج ما بينهما يدلان فيما يدلان على رجولة الإرادة وأصالة السيادة.
ثم يوثق هذه الأوصاف ويثبتها أنف مرسل أشم حلو القنا، وفم رقيق المبسم، وشارب جزل منطلق متصل بلحية هي الوقار عينه في بياضها وانسيالها.
وهو إلى هذا عريض المنكبين، متسع الصدر، منسجم الأطراف، شديد المتن، قوي البنية، يحمل من اللباس ما يفرضه زي العلماء، فإذا سار خلته الطود متحركا، من غير تلفت أو التواء، وإذا جلس فليعتدل ما يتحرك ولا يريم في غير حاجة، وإذا تحدث أجمل بين الخاصة، أو أطنب على قدر بين العامة.
ولئن كانت تلك أوصافه في صورته الماثلة التي غيبها عنا الموت القاسي، وهي هي في قرب الشبه بمن تقدموه من أسلافه وأجداده، فان صفاته النفسية والخلقية لنبعة ثرة من ذياك السلسبيل البعيد الزكي المستفيض.
أجل، وأيم الحق، ان لفي علامتنا الأمين لقبسا وهاجا من الاسلامية النورانية، وروحا خالصة من التراث العربي العريق. وتحس ذلك بل تلمسه في هيئته الظاهرة، وفي تميز شمائله الطاهرة ان لم نقل في كافة عاداته وأحواله في حياته.
ونحن إذ نودع حجتنا وامامنا وعلامتنا العامل، وننفض الأيدي آخر نفضة منه، لنودع صورة ليس أحب منها إلى الابصار والقلوب، وليس أبرع منها في توفيق الدلالة بين المظهر والمخبر.
انها من الصور العزيزة على الزمن لأنه لا يجود بمثلها في عبقريتها الا قليلا.
انها الصورة الحية ما بين الجوانح والخواطر بما غيبت وراءها من امتيازات في المزايا الروحية والنفسية هي امتيازات العظمة في أوجها من استحقاق الاجلال والإعظام.
في خطه وتأليفه بقلم: الأستاذ وجيه بيضون فقد الاسلام والعروبة بفقد المجتهد الأكبر الامام السيد محسن الأمين. مصلحا فذا وفقيها جليلا وعالما عاملا ومؤلفا دؤوبا مثمرا نيفت مؤلفاته على المئة عدا.
وليس يدري طريقته في الكتابة وفضله في مؤلفاته واتساع شخصيته التي انطوت على العلم انطواءها على الأدب ليس يدري ذلك على حقه الا الأقلون.
انك إذا أخذت خطه فأنت تلقاه حروف ممشوقة سهلة في القراءة لولا ازدحام التعاريج والملاحق والحواشي. ومبعثها العجلة ثم الاستدراك في الزيادة أو الحذف. ان بعض الصفحات من كتاباته أحسن الله إليه لتحكي المصورات الجغرافية في خطوطها المتلوية صعودا وهبوطا أو المتسربة يمنة ويسارا أو المعلمة برقم يرجع إلى مثله في ورقة مضافة ويختم الصفحة بكلمة مذيلة كأنها التوقيع وهي أولي الكلمات في الصفحة التالية على نحو خطة الأسلاف القدامى من المؤلفين كأنما يستغنون بذلك عن الأرقام استتباعا للصفحات بعضها اثر بعض.
وفي رواميز التصحيح لا يجري قلمه حينا الا في الأخطاء وفي بعض الأحيان يثور فيها ويثور حتى ليدك الصفحة دكا جاعلا عاليها سافلها. فإذا ألم الطباعون وراجعوا سماحته متشكين من العناء الذي يصيبهم، والوقت الذي يضيع عليهم وإذا رجوه إعادة النظر على المواد قبل دفعها للطبع كان جوابه الذي لا يتغير: ان العصمة لله وحده وانه أعجز من أن يحيط بكل شئ حين يكتب وان لا مناص من التبديل والتحوير. على أنه رحمه الله لم يكن ينسى التعويض على المطابع في كثير من الأحوال.
وكان لا يهمه إذ يكتب ان يصطنع اي نوع من الورق يكون تحت متناول يده. والغالب على مواده انها مزق من الأوراق لا تراعى فيها الأحجام، منها ما هو بحجم الكف، ومنها ما يستطيل ويضيق، وبعضها قد سود من ظهره كتابة أو طبعا، أو انجمع عليه بعض الحبر.
فإذا استنتجت من هذا كله شيئا فهو ميله إلى البساطة، وانحصار وقته عن المراجعة وفقد المساعدين في أمور التبييض والتحسين والترقين.
ولطالما قصدت إلى سماحته في صومعته في مكتبته فرأيته مقتعدا الأرض ومن حوله أكداس الأسفار بعضها فوق بعض وبيده قلمه الجليل العريض من القصب الأشهب أو الأسود يستمد غذاءه من دواة متواضعة ملاقة بالحبر الأسود، وهي لا يقنع بمثلها اليوم أطفالنا الصغار في المدارس فضلا عن الكبار ممن يحمل أكثرهم القلم المحبر وقيمته ثلاثون أو أربعون من الليرات.
وربما أدركه الجوع وهو في عمله، فتناول طعامه في مكانه ما يتحلحل عنه ولا يريم. وقد يقصده بعضهم في حاجة فيقضي له ويصرفه ثم يعود إلى عمله.
أما تواليفه فتؤلف مكتبة كاملة في شتى الفنون، في النحو والصرف والفقه، وفي الأدب والشعر وفي التاريخ الاسلامي والاجتهاد الديني، وفي الاجتماعات، وفي تراجم الرجال، وغير ذلك.
وأعظمها خطرا مؤلفه الفريد من نوعه والذي يعد موسوعة في علم الرجال، ونقصد به أعيان الشيعة الذي ترجم فيه لآلاف من المشهورين مبتدئا بالرسول الأعظم ص إلى يومنا هذا.