لدائرة البوليس واخذ رخصة للسفر فاصر علينا الرجلان والتمسا حضورنا للدائرة ولو كان في ذلك حزازة ومشقة علينا رغبة في الاصلاح بين المؤمنين فحضرنا ووجدنا الدائرة ملأى من الناس والجلاوزة تطردهم طرد الغنم فهممنا بالرجوع، فرجا منا الرجلان اتمام السعي فلما وصلنا إلى باب الدائرة ورآنا الرئيس وهو تركي أوعز إلى الحاجب ان لا يمنعنا من الدخول فدخلنا إلى الشرطي المكلف بكتابة الجوازات وهو بيروتي فلم يلتفت كثيرا وبقي مشتغلا بعمله فلما رأى ذلك الرئيس أشار إلينا بالحضور إليه واخذ في كتابة الجواز لنا مع أن ذلك ليس من شغله واندس بيننا رجل ذو هيئة وهندام وثياب فاخرة ووضع ورقته بين أوراقنا خلسة فنظر إليه الرئيس شزرا ولما أتم كتابة جوازاتنا قال في أمان الله خجا أفندي ونفخ ورقة الذي اندس بيننا فاطارها ووقعت على الأرض واخذها صاحبها وعاد من حيث اتى.
وكانت المسألة التي طلبنا للهرمل لأجل فصلها ان رجلا مثريا يسمى الحاج محمد علي المقهور تزوج امرأة من آل بليبل وتوفي وهي حامل فولدت ذكرا وادعى أهل زوجها انها ولدته ميتا فلا ميراث له وادعت هي انها ولدته حيا ثم مات فورث أباه ثم ورثته هي.
ولما دخلنا الهرمل وجدنا المسألة قد وصلت إلى الحاكم وقد سيق أخو الزوجة مخفورا إلى بعبدا فقلنا لهم إذا كان مرادكم مراجعة الحاكم فلماذا أزعجتمونا وأحضرتمونا لهنا وظننا ان الحالة عندهم كما هي الحالة في بلادنا متى وصلت المسألة للحاكم لم يمكن حلها حتى يعجز الطرفان أو أحدهما فقالوا الآن نرسل للمدير ويرجع أخا الزوجة ويفرج عنه ولا يكون الا ما تأمر به وتحكم.
وفي الصباح حضر المدير وهو تركي ابن أخت علي رضا باشا قائد عموم جبل لبنان واسمه نوري أفندي وقائد الدرك وهو درزي وحاكم الصلح المكلف بفصل هذه الدعاوى وهو مسيحي. جاء الثلاثة لينظروا من هو هذا الذي جاء لفصل هذه الدعوى المهمة وبعد ما تحدثنا معهم مدة خرجوا وقال المدير انا ارسل إليك أوراق الدعوى لأجل فحصها لكنه جعل الحاء المهملة خاء معجمة وقال لمن معه انا هذا السيد عجبتو اي أعجبني ثم ارسل إلي أوراق الدعوى وفي اليوم الثاني صباحا حضر المتداعيان وكيل الزوجة ووكيل آل المقهور وحضر المدير والقائد وحاكم الصلح ليروا كيف تكون هذه المحاكمة التي لم يروا مثلها فطلب المدير افتتاح المحاكمة بقراءة القرآن فجاء سيد يحفظ القرآن فلم يرض المدير ان يقرأ لأنه كان يستثقله وبالحقيقة كان ثقيلا وكان معنا شيخ فقلنا له ان يقرأ حزبا من القرآن فلم يكن يحفظ ولم يتيسر احضار قرآن.
وافتتحت المحاكمة فقال وكيل الزوجة ان الولد ولد حيا ثم مات وقال وكيل آل المقهور انه ولد ميتا وكان الظاهر أن القول قول الزوجة لموافقته استصحاب الحياة وان أولئك مدعون فطلبنا حضور القابلة والنساء اللواتي حضرن الولادة فذهب من يحضر القابلة وعاد قائلا انه لم يجدها وذهب من يحضر باقي النساء فكان جوابه كذلك فعلمت انه ما دام الحاكم له يد في المحاكمة يصعب حضورهن ولاح لي ان الولد ولد حيا واستهل ثم مات فصعب عليهم ان ترث امه سهمه البالغ على الأقل ألف ليرة عثمانية ذهبا ثم تذهب وتتزوج وتعطي أموال زوجها الأول لزوجها الثاني، وان الأوفق فصل الدعوى بوجه الصلح فقلت للمدير دع هذه القضية وانا انهيها لك في وقت قريب فذهب ومن معه وقلت للجماعة اختاروا رجلا من آل بليبل ذا عقل ودين يرضى به آل المقهور واختاروا آخر ذا عقل ودين يرضى به آل بليبل ففعلوا وخلوت بهما ومعنا كاتب فقلت لهما قوما ما يملكه الزوج بقيمة تقطعان انه لا يساوي أقل منها ففعلا فكان ما ترثه الزوجة من ولدها لو كان حيا ثمانون ألفا من القروش أبي ما يعادل ثمانمائة ليرة عثمانية ذهبا فقلت لهم قد حكمت بان تعطى الزوجة نصف هذه القيمة صلحا فقال الفريقان قبلنا ورضينا واحضروا المبلغ أكثره نقود وبعضه من الذرة الصفراء وأعطي للزوجة وكتبنا لهم وثيقة وأعطيناهم إياها وأحضرنا كاتب العدل فسجل ذلك.
ومما قاله لنا المدير في حديثه نحن الأتراك ابتلينا بخازوقين خازوق الامتيازات وخازوق الدين. فقلت له إما خازوق الامتيازات فنعم واما خازوق الدين فالذي ابتليتم به خازوق ترك الدين لا خازوق الدين ولو مشيتم على ما امركم الله به من قوله: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة لما وصلتم لما وصلتم إليه.
وكان في ذلك الوقت المشايخ آل حمادة الكرام منفيين من قبل الأتراك إلى الأناضول وحضر منهم شخص ونحن في الهرمل يدعى أبو نزهة قد أفرج عنه الأتراك فلم ينزل في داره ونزل في دار أخرى وقال ما دامت ديار أهلي منهم خالية فلا انزل في داري فكان ذلك منه غاية الشهامة وعلو النفس وكرم الطبع وحضر معنا بعض الدعوات فانشد في غضون الحديث شيئا من ركبانية ابن الخلفة وكنت احفظ أكثرها فأنشدت له ما غاب عنه منها.
ثم خرجنا من الهرمل وأرسل المدير كتابا إلى الضابط من بلده يوصيه بتسهيل سفرنا وكان السفر في تلك الأوقات عسرا بسبب الحرب فقال الضابط انا لا احتاج إلى توصية وإذا كان رجل مثلكم من العلماء ومن الذرية الطاهرة لا يمكن ان اقصر في خدمته فاكرمنا وأجلسنا على فراشه وجلس هو ناحية وصنع لنا طعاما وأنامنا في فراشه وبقي هو ساهرا ينتظر القطار وكان الركوب فيه محظورا لغير العسكريين فاركبنا فيه واوصى المتولي أمور القطار بنا وقال له هؤلاء من أقاربي فاوصلنا إلى رياق.
ومن السوانح التي اتفقت لنا في تلك المدة والحديث شجون اننا كنا في تشييع جنازة في بعض القرى فشرع بعض من ينسب إلى العلم في قراءة خطبة لأمير المؤمنين ع وقرأ منها والنفس بينهما متجاذبة بكسر الذال فقال له رجل من صغار أهل العلم متجاذبة وفتح الذال فغضب المنسوب إلى العلم من ذلك وبلغني ان بعض ذويه أرادوا ضرب من غلطه لكنهم خافوا عاقبة ذلك لأن أهل قريته أشداء، فقلت يا سبحان الله ان من ردني عن غلط يجب ان يكون له منة علي لا ان أغضب منه فهو كمن يرى ثوبي ملطخا بالطين أو ببعض الأقذار وينبهني عليه فهو يستوجب مني المدح والامتنان لا ان أغضب منه لكن هذا يصدق ما ورد ما تكبر امرؤ الا لنقص يراه في نفسه.
ذهابنا لدمشق بعد الحرب العالمية الأولى للسلام على الأمير فيصل لما انقضت الحرب العالمية الأولى ودخل الأمير فيصل بن الحسين