أنواعها، فكل لسان بانسان. فاستحسن سماحته ما أنشأت ومنحني يومئذ العلامة الأولى.
وكثيرا ما كنت أجوز بعم زاهد كاسمه اتخذ العطارة معاشا، وهو من المصطفين عند سماحة المترجم يقصد إلى حانوته عصارى كل يوم ليقضي بعض الوقت إما استجماما من العناء أو ترقبا لحلول المساء كيما يقضي الصلاة الجامعة في المسجد القريب. فكان رحمه الله يستوقفني ليسألني عن حالي وأشغالي ولحظ مني ذات يوم اني أطالع بعض الأوراق، ولما علم أن بين يدي بعض الشعر من نظمي أكبر هذا السخف الذي انتهي إليه، ثم تظاهر بالشك في أن يكون لي كأنما أراد ان يشجعني بذلك. وختم يشحذ همتي للاستمرار في الكتابة والمطالعة بلا انقطاع ومن غير أن يخامرني الوجل، فكان لهذا الموقف اثره الذي لا أزال أذكره، وقد أعانني على المضي في حياتي الأدبية ما يلويني عنها نقد أو تثبيط.
وترجع صلتي بسماحته عن طريق الطباعة إلى أوائل الحرب العالمية الأولى، إذ كان قد أسس مع طائفة من المساهمين مطبعة اطلق عليها عنوان المطبعة الوطنية واتخذ لها مكانا في شارع البزورية وخصها بتاليفه تعمل في طبعها، وأذكر منها ديوانه الرحيق المختوم في المنثور والمنظوم وكنت أسفر برواميز التصحيح متنقلا بين داره والمطبعة، وربما استعانني في مقابلة التصحيح، فتجوز بسمعي كلماته فاضبط عليها ما يكون منها على لساني ملتويا غير مستقيم.
ثم عملت في بعض المطابع اثنتي عشرة سنة، فكنت وسماحته كالمتلازمين تجمعنا شؤون التأليف والطباعة. وحدث ان عهد إلينا بكتاب مشكول، وكان تنضيده من نصيبي، فمرت بي كلمة الوحدة وقد ضبطها بالكسر فجعلتها منصوبة فلما ان مر بها تصحيحا أولا وثانيا وهي على حالها من النصب كتب ازاءها موبخا ومؤنبا بما يشير إلى اهمالنا وقلة انتباهنا. ولكنه عاد يبارك في عملي حين لفت نظره إلى حقيقة ضبطها في المعاجم.
ومن هناته التباس بعض الحروف المتشابهة عليه كالضاد والظاء، فيخلط بينها في كتابته لجريها الطويل على لسانه خطا في العراق إذ كان طالبا، وفي جبل عامل بلاده حيث ينزلون هاتيك الحروف بعضها منزلة بعض على غير انتباه.
ولما ان عزمت على الاستقلال بالعمل، والانفراد بمطبعة خاصة مضيت استنصحه على عادتي في معظم شؤوني، فلقيت منه غاية التشجيع والتأييد.
وما كاد يبلغه بعد حين خبر توفري على طباعة الكتب حتى حول إلي تاليفه التي لبثت من اخراج مطبعتي، مذيلة باسمها، إلى أواسط الحرب العالمية الثانية.
وزورته الأولى لمطبعتي كشفت لي عما زادني به تعلقا واعجابا. دخل علي وانا في مكتبي فسارعت إلى تحيته ولثم يده. ثم لم يرعني منه الا وبصره يعلق بما عرض على الجدار من اعلانات للسينما ونمازج الرقص وهي تحمل رسوم الغيد الحسان في أوضاع من التخلع والتهتك تمجها الكرامة، فاسقط في يدي، ولم يخرجني من ذهولي الا سؤاله رحمه الله عما اطبع، فأشرت إلى هاتيك المطبوعات معترفا انني احمل منها المأثمة ولكن على مرغمة. فنظر إلي طويلا ثم قال: لا باس عليك يا بني فالعمل خير من البطالة. والعمل يقصد فيه وجه الكفاف غير العمل يقصد فيه إلى الرذيلة. وللضرورة احكامها.
وحكمك في عملك انك كالصيدلاني يؤلف وصفات الأطباء على ما فيها من سم أو ترياق فما تقع عليه التبعة. ولو كان لك عن عملك معدى ولم تفعل أو كنت تأخذ بغير مهنتك سبب عيشك وعيالك للحقتك التبعة.
ثم لو كانت التبعة تقاس بنوع كل طبعة لكان لك ان تنفض يدك من كل عمل في مهنتك لأن في الصحف وفي الكتب مثل ما في هذه الاعلانات وهذه الرسوم العريانة من معان كافرة وأضاليل منكرة ودعوات لا ترضي الا الشيطان فخذ بعملك إلى أن يتهيأ لك غيره وهجره. ومن اضطر غير باع ولا عاد فان الله غفور رحيم.
وكنت في معيته إلى بعض الوراقين فسألته رأيه في إحدى الآيات القرآنية فذكر لي مثل ما عرفت من معناها. قلت: ولكنه المعنى الظاهر، قال: وهل لنا ان نأخذ بغير الظاهر ونحن أضعف من أن نغوص في المعاني العميقة التي انطوى عليها كتاب الله؟ الا فخذ عني هذه الحقيقة: ان أكبر الأدمغة لأعجز عن الإحاطة بالمعاني القرآنية في مقاصدها البعيدة.
وجرى الحديث عن الذكاء العربي فسمعت سماحته يصنف هذا الذكاء فيجعله في مختلف الأقطار العربية متفاوت الدرجات يعلو فيبلغ حد الألمعية ويسفل فيتردى تفاهة وسخافة أما في بلاد الشام فيحتفظ بطابعه الخاص من العدل حيث لا سمو ولا اسفاف وهذا في رأيه خير الأنواع موافقة للحياة.
وسيادته معجب بالخلق الأوروبي العملي. قال لي ذات مرة: أ تدري ما سر نجاح هؤلاء السكسونيين؟ انهم أخذوا عن الاسلام ثلاث فضائل هي قوام ما بلغوا من قوة ومنعة: التفكير العميق والعزم المصمم والثبات الدائب. فهم يفكرون مليا ثم يعزمون عزما أكيدا ومتى جنحوا إلى العمل ثبتوا ثباتهم العجيب إلى أن يفوزوا بالغايات والمطاليب.
ومن اخبار وطنيته ونزاهته وسموه النفسي ان الفرنسيين عرضوا على سماحته منصب رئاسة العلماء والإفتاء بمعاش كبير مشفوعا بدار للسكنى وسيارة خاصة وأرسلوا أحد الضباط من بيروت إلى دمشق كي يعرض عليه الرأي، فلما ان مثل بين يديه في صومعته الصغيرة، وكنت ترجمانه، قال الضابط انه قدم لزيارته ثلاث مرات حتى أسعده الحظ بلقياه. فما كان من سماحته الا ان امرني ان اكذبه لأنه لم يحاول الزيارة أكثر من مرتين، فتلطفت بنقل تكذيبه إلى الضابط الذي اعتذر للحال عن خطئه، ثم أدلى بالغاية التي قدم من اجلها، وكان يترقب كل جواب الا الجواب السلبي الذي جابهه به سيدنا الأمين إذ قال: انني موظف عند الخالق العظيم وسيد الأكوان، ومن كان كذلك لا يمكن ان يكون موظفا عند المفوض السامي فاشكره بالنيابة عني على ثقته بي، واحمل إليه ان المعاش الكبير والمركز الخطير والدار المنيفة والسيارة الرفيهة، كل أولئك قد أغناني الله عنه