غرفته الصغيرة المتواضعة بدمشق تنفسح به وتتسع، على قدر ما ينفسح صدره للحياة ويتسع.
هذه دواته المباركة وهذه أقلامه الخصبة هي ذي انظر إليها وهو في لحظات الاحتضار وكأني أراه في صومعته تلك يبدد من تهاويل المغريات والشهوات، ثم ينكفئ إلى دواته وأقلامه يتهلل لها بوجهه السمح فتتهلل هي بالنور يتدفق سماحة ورقة، ويفيض خيرا وبركة ويتسلل تواضعا وبساطة.
هذه دواته وأقلامه... هي ذي انظر إليها وكأني أراها تتحول بين يديه، في صومعته تلك، سياطا من نار ينضج بها جلود المبتدعين والمضللين والمشعوذين، لا هوادة ولا رحمة ولا إشفاق، أو تتحول بين يديه، في صومعته تلك، مشاعل من نور تقف على المفترقات والمنعطفات، لتقول لهؤلاء وهؤلاء: ليس الدين أيها الناس ما تبتدعون وما تضللون ليس الدين أيها الناس ما تبذرون من الفرقة والبغضاء والعصبيات والنعرات، وانما الدين هو هذا النور المشع يشمل الآفاق كلها كما ترون، ويملأ النفوس كلها شوقا إلى العمل وتوقا إلى الحياة، وطموحا إلى العدل ونشدانا للخير، وايمانا بان الناس سواسية عند الله لا فرق بين أسودهم وأبيضهم ولا سيد بينهم أو مسود.
هي ذي دواته وأقلامه... أراها كأني ارى وجهه يطفح مرحا، ويشرق ابتساما، وينطلق فتوة، ويتوهج نشاطا، ويترقرق وداعة وفكاهة وحنانا.
آية أيتها الدواة المباركة، آية أيها القلم الدؤوب! لقد أجهدكما ربكما حتى وقفت عنكما يده، ووقف عنكما قلبه، فلتستريحا إذن في ظلال ذكراه، ولتؤنس وحشتكما، في الهدأة العميقة، هذه الدنيا العريضة التي صنعتماها أنتما بيده وقلبه وعقله، هذه الدنيا العريضة المشرقة التي صنعتماها علما واصلاحا وبناء وانشاء، وتنويرا وتعليما.
وفاته توفي حوالي منتصف ليلة الأحد 4 رجب سنة 1371 ه الموافق 30 أذار سنة 1952 م فنعته الإذاعة اللبنانية ثم تجاوبت بنعيه سائر إذاعات العالم العربي والعالم الاسلامي، وسرت موجة من الأسى لفقده في شعوب العرب والمسلمين جميعا، وتداعت الصحف في أقطار هذه الشعوب ترثيه وتعدد ماثره الاصلاحية ومكانته في عالم التأليف والتصنيف وتعرض شؤونا كثيرة من سيرته العاملة لجمع الكلمة وتجديد الفكر الاسلامي، ونفي الترهات والغشاوات عن نقاء الشريعة الاسلامية، وتصف مواقفه الوطنية إلى جانب الشعوب العربية في كفاحها الاستقلالي.
وأقيمت المآتم ومجالس الفاتحة عن روحه في مختلف العواصم والمدن العربية والاسلامية والمهاجر الأمريكية والأفريقية وحضرت تشيع جنازته في بيروت ففي لبنان كتبت جريدة الحياة صباح يوم الوفاة على صفحتها الأولى، إلى جانب صورة كبيرة للفقيد، كلمة النعي الآتية.
مات المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين في الساعة الحادية عشرة مساء أمس فجعت البلاد، وفجع العالم العربي والإسلامي، بوفاة المجتهد الأكبر السيد محسن الأمين، ويبدو عظم الخسارة بالفقيد الكبير حين نذكر انه كان طوال حياته طرازا جديدا نادرا في علماء الدين، إذ عرف بنزعته الاصلاحية في طريقة تفكيره المتفتحة، وأسلوب حياته العلمية الرفيعة، وفي عزوفه عن كثير من مظاهر الجاه