تجارتها، فلا الحكام يغدقون البدر على الشعراء، ولا الأعيان يمدون الموائد للأدباء، وحل رمضان الكريم كما يحل كل عام، فاشتاق الجزار إلى كنافته وقطائفه! وانى له! والأبواب موصدة، والكف صفر! فليطرق الشاعر أبواب معارفه وخلصائه، وليرسل إلى صديقه شرف الدين هذه الأبيات الضارعات:
أيا شرف الدين الذي فيض جوده * براحته قد اخجل الغيث والبحرا لئن أمحلت ارض الكنافة انني * لأرجو لها من سحب راحتك القطرا فعجل بها جودا فما لي حاجة * سواها نباتا يثمر الحمد والشكرا وكثيرا ما نهاه شرف الدين عن احتراف الجزارة لأنها في رأيه تنقص من قيمته، وتخفض من أدبه، ولكن الجزار أجاب صديقه:
لا تلمني يا سيد شرف الدين إذا ما رأيتني قصابا كيف لا أشكر الجزارة ما عشت حفاظا وارفض الآدابا وبها أضحت الكلاب ترجيني وبالشعر كنت أرجو الكلابا (1) يقول هذا وفي باطنه ثورة مشبوبة تجد تنفيسها في مثل قوله:
أصبحت لحاما وفي البيت لا * اعرف ما رائحة اللحم واعتضت من فقري ومن فاقتي * عن التذاذ الطعم بالشحم جهلته فقرأ فكنت الذي * أضله الله على علم وحين يأتي رمضان المبارك يزداد التبرم بالرجل ازديادا مؤثرا فهو يتذكر ماضيه على الموائد بين الكنافة والقطائف، ثم ينظر إلى يومه المقفر الجديب فيتالم لحاضره مع المخللات والمحرقات، ويتشوق إلى عهوده الماضية كما يتشوق الكهل الهرم إلى مراتع شبابه ومباهج صباه، ويدعو إلى الكنافة بالسقيا من السكر كما يدعو المحب إلى الأطلال بالسقيا من الغيث، وأنه ليبهجك بفكاهته الطريفة إذ يقول:
سقى الله اكناف الكنافة بالقطر * وجاد عليها سكرا دائم الدر وتبا لأوقات المخلل أنها * تمر بلا نفع وتحسب من عمري ولي زوجة أن تشتهي قاهريه * أقول لها ما القاهرية في مصر والقاهرية هذه كما أظن، إحدى اللطائف الشهية، كالكنافة والقطائف. إلى أن يذكر له الأستاذ البيومي قوله:
الا قل للذي يسال * عن قومي وعن أهلي لقد تسأل عن قوم * كرام الفرع والأصل ترجيهم بنو كلب * وتخشاهم بنو عجل وقال مجاهد الخياط يهجوه:
إن تاه جزاركم عليكم * بفطنة عنده وكيس فليس يرجوه غير كلب * وليس يخشاه غير تيس ومن طرائفه أنه أراد الخروج لنزهة مع رفقة له فرغبوا بشراء لحم فكلفوه بذلك لخبرته، فعاد إليهم بأردأ لحم. فلما تعجبوا من ذلك قال لهم: لما رآني صاحب اللحم عرف بي زميلا قديما له فاقسم علي بان اقطع اللحم بيدي فغلب علي لؤم الجزارين فجئت بهذا اللحم.
وقال ابن سعيد الأندلسي وقد اجتمع به وصحبه عندما مر بالقسطاس ما خلاصته:
اختم بهذا الشاعر شعراء القسطاس ليكون الختام بمسك، وإن كان بينهم في هذا العصر بمنزلة الواسطة من السلك. كان أبوه وأقاربه جزارين بالقسطاس، ودكاكينهم بها إلى الآن قد عاينتها وأبصرته معهم بها وكان في أول امره قصابا مثل أبيه وقومه، فحام على الأدب مدة وأكثر حوله من حومه فرفعت له في القريض راية وطريقه من أسهل الطرق التي يميل إليها العامة، ولا ينكرها الخاصة. يفيض خاطره كالعارض المتراكم. ولم يزل ذلك دأبه في بلده حتى أخذ علو الطبقة بيده، وهو على كونه نشأ بين ساطور ووضم. من أحسن الناس شكلا وأظرفهم وانظفهم وأحلاهم طبعا، ذو بزة تصلح للرؤساء السراة، ولما قدمت إلى الديار المصرية لقيت فيها ما يلقاه الغريب، ولم أجد من فيه للمروءة نصيب ولا للأدب حظ، حتى لقيته فأنشدته:
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد وهو على ضد الشعراء في ترك الاستهتار بالمدامة وإن كان مكثرا للمازجة تظرفا ورياضة للغزل وهو الآن شاعر القسطاس.
فمن قوله في قصيدة يمدح بها الملك الناصر ابن المعظم أنشده إياه في يوم عيد النحر، وذكر فيها صنعته:
كيف يبقي الجزار في يوم عيد النحر رهن الافلاس والعيد عيده يتمنى لحم الأضاحي، وعند الناس منه طريه وقديده ولقد آن من لقائك أن تبيض أيامه ويخضر عوده وفي معظم قصائده يشكو الزمان ويصف فقره وبؤسه في حين أن مترجميه يذكرون أنه صارت له في الآفاق المصرية عدة رسوم يجتمع له فيها ما لا يحصله في عصره أحد من أهل الأدب...
والمراد من الرسوم راتب معلوم على الرؤساء والأعيان يؤدونه إليه في أوقات معلومة، فمن شعره: ولا تغرنك منه جوخة فصلها وهو عليها نادم وبيعها في البرد غير ممكن ورهنها لا يرتضيه الحازم وقوله:
حسبي حرافا بحرفتي حسبي * أصبحت منها معذب القلب موسخ الثوب والصحيفة من * طول اكتسابي ذنبا بلا كسب أعمل في اللحم للعشاء ولا * أنال منه العشا فما ذنبي خلا فؤادي ولي فم وسخ * كأنني في جزارتي كلبي ومن شعره من قصيدة له كتب بها إلى جمال الدين بن يغمور في العشر الأخير من رمضان: