ولا ريب في أن كل من يلقي نظرة فاحصة على القرآن الكريم ويتأمل في آياته الدافعة إلى التدبر والتفكير في شئ عظيم من الجد يتضح له ان هذا الكتاب السماوي الكريم هو أول أسباب تغلغل الفلسفة في البيئات العربية وهو العامل الأول الذي فتح للعرب باب البحوث الفلسفية المؤسسة على المنطق والتأمل فظهر لهم شئ من هذه البحوث التي لم يكن لهم بها عهد قبل نزول القرآن وكانت هذه البحوث تدور حول علوم الكون وعلوم الدين من توحيد وتفسير وتشريع.
ولا شك ان هذا طليعة سافرة من طلائع الفلسفة ظهرت في صدر الاسلام واخذت تنمو وتتزايد إلى أن بدئ في الترجمة عن اليونانية والفارسية والهندية. وكان العربي المسلم يمتاز بذكاء طبيعي وبقوى عقلية دفينة، وبرغبة في الاطلاع على الجديد فأصبح بعد وقت قصير وريث حضارة الشعوب العريقة في القدم التي تغلب عليها أو احتك بها، وتبع دور الترجمة الطويل بما كان فيه من انتاج دور الابتكار والابتداع المؤسس على الثقافة الاسلامية.
صورة موجزة من فلسفة الكندي تمهيد وقع بعض الباحثين في الحيرة والارتباك وخيل إليهم ان الكندي لم يزد على علوم اليونان وفلسفتهم جديدا، وانه قد هوى في حضيض الأسلوب الغامض الذي يحول بينه وبين الجدارة بالخلود، وان النزر اليسير الباقي، من كتبه لا يعطي صورة واضحة عن فلسفته، ولكنا عرفنا فلسفة الكندي من كتبه ومؤلفاته، ومن إلهاماته المسجلة في مؤلفات معاصره ومستودع اسرار فلسفته وهو الفارابي المعلم الثاني، واقتفى ابن سينا اثر الفارابي في ذلك، وتبعه كثيرون من أبرع المؤلفين في الفلسفة وتاريخها العام من العرب والمسلمين، فلا نشك في أن الكندي عاش في القرن الثالث الهجري، وأتم ترجمة الفلسفة اليونانية والمعارف الفارسية والثقافة الهندية، وفرع من شرحها والتعليق عليها بما يدل على أنه هضمها ونضج في فهمها، وبرز فيها تبريزا يستوجب الاحترام والاجلال والخلود، فأصبح فاضل دهره وواحد عصره في معرفة العلوم القديمة بأسرها، ثم استعان بثقافته الاسلامية والقرآنية على تعديلها وتقويمها وتصحيح أخطائها فأبدع مذهبا مستقلا في الفلسفة ابتناه على أساس استعمال البراهين المنطقية والحجج النظرية التي ينتهي أول قضاياها إلى البديهيات المسلمة فظل مصدر إلهام اسمى الأفكار وأعلى النظريات إلى معاصريه ومن جاء من بعده من فلاسفة العرب والاسلام، ولقب بحق أول فلاسفة العرب والاسلام وهو أول فيلسوف عربي واسلامي حاول التوفيق بين آراء أفلاطون وأرسطو، واقتفى اثره الفارابي في ذلك ثم ابن سينا فألف كتاب الشفاء في الحكمة المشائية، ثم كتاب الإشارات في الحكمة الاشرافية، والكندي حكيم إلهي وعقلي وتأكيدي وخلقي وديني وقائل بوجود المجردات والموجودات الغير المحسوسة ومعتقد بشرف الإنسانية واحترام النواميس الفطرية.
ثقافة قرآنية تاريخية.
قرأ الكندي في القرآن الكريم قوله تعالى: هو الذي انزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ولا يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم الخ، فتحير الكندي في المتشابهات فقال له بعض تلامذته: إنما يعرف القرآن من خوطب به وهو رسول الله ص، وأهل البيت أدرى بما في البيت وعندنا في سامراء رجل من أهل بيت رسول الله ص وهو حفيده وسبطه الإمام الحسن العسكري وقد أجبره الخليفة على الإقامة في سامراء، فاسئله عن تفسير الآيات وتأويل المتشابهات، فاستحسن الكندي كلامه وهكذا ساعده التوفيق الآلهي على تحصيل الثقافة القرآنية الكاملة من الإمام الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين وابن فاطمة بنت رسول الله ص وهذه منقبة تاريخية تفرد بها الكندي ولا يشاركه فيها أحد من فلاسفة العرب والمسلمين.
فلسفة الكندي الإلهية يرى الكندي ان العالم اي ما سوى الله كله حادث ومخلوق لله الواحد الاحد وهو المبدع الأول وعلة العلل وان سلسلة الموجودات الإمكانية التي أفاضها المبدأ الأول بقدرته الأزلية وبعلمه العنائي بالنظام الأحسن تبتدئ من أكملها وأتمها وجودا وهو العقل المجرد من المادة ذاتا وفعلا فهو ليس ماديا ولا زمانيا بل هو فوق المادة وفوق الزمان، خلق الله العقل الأول مزودا بالقدرة على التأثير في ما يليه، وهو العقل الثاني وعلى تصوير مادة المخترعات الفلكية كما أراده الله تعالى، وتنتهي سلسلة العقول الطولية التي جعل الله كل سابق منها علة امكانية للاحق إلى العقل العاشر المدبر في عالم التكوين المادي بأمر الله تعالى. والعقول العشرة الطولية كلها جواهر مجردة عن المادة ومستغنية عنها في ذواتها وفي أفعالها ولكن النفس جوهر مجرد عن المادة في ذاتها ومحتاج إليها في أفعالها، وعالم العقول يسمى عالم الابداع المنزه عن المادة والزمان، والعقول العشرة هي المرتبة الأولى في سلسلة الوجود الإمكاني المرتب على نظام الأشرف فالأشرف، وتسمى العقول العشرة المبدعات كما تسمى المرتبة الثانية المخترعات، وهي موجودات مادية لا تقترن بالزمان وهي الأفلاك والفلكيات ونفوسها الكلية، والموجودات المثالية، وعالمها عالم الاختراع والاختراع في مصطلح الفلاسفة، ايجاد شئ لا في زمان عن مادة لطيفة غير مادة المكونات، تسمى ب " الأثير.
وأما المرتبة الثالثة فهي المكونات وعللها عالم التكوين وهي موجودات مقترنة بالمادة والزمان، وهي، العناصر، والطبع، والصورة الجسمية، والهيولي، العنصر المادي التي هي خاتمة القوس النزولي للوجود والعنصريات من الأجسام، والمواليد الثلاث، اي النبات، والحيوان والإنسان.
وفي رأي الكندي للنبات نفس نباتية مع قواها، وللحيوان نفس حيوانية مع قواها، والإنسان مخصوص بالنفس الناطقة التي هي مجردة عن المادة في ذاتها وأما في أفعالها فهي محتاجة إلى البدن والجوارح، وللنفس الناطقة الهابطة من عالم الملكوت إلى عالم الملك قوتان إحداهما قوة نظرية بها تستكمل الفيض الذي تأخذه من عالم الملكوت، وللنفس بحسب هذه القوة العلامة مراتب أربع وهما العقل الهيولاني فالعقل بالملكة