ولست تلقى لركعات الهدية من * شخص يصلي ولو صوت في البوق عمشا كذاك علي الزين أنفق من * شاي ومن سكر في وسط إبريق أما انا فخرجت من البيت وبنيت خيمة بالقرب منه تحت شجرة زيتون فكان أهل القرية يأتي أحدهم فيقف وراء الحائط ويخبرني ان عنده مريضا بهذا المرض فأقول له اسقه الشاي ولولا قيامي بدفن الأموات لدفنوا بغير غسل ولا كفن وأهيل عليهم التراب أو اكلتهم الجرذان والكلاب. ثم امرت أهل القرية ان يخرجوا من البيوت إلى الكروم ونحوها ويتفرقوا ففعلوا فخفت وطأة المرض عنهم وكان لنا جار من أقربائنا فتوفي بهذا المرض فقال أهل البيت نريد ان نذهب من هنا إلى بعض الأماكن التي ليس فيها وباء قلت ذلك إليكم أما انا فباق هنا حتى يرتفع هذا الوباء قالوا انما نريد الذهاب لأجلك فقلت انا غير ذاهب، وكان هذا المرض قد أصاب أهل القرية قبل ذلك بمدة ومات به جماعة لكن أهل القرية لم يعرفوه ولم يعرفه أحد غيري فكتمت ذلك عنهم حتى لا يدب فيهم الذعر إلى أن جاءني يوما بعض بني عمنا يقول إن زوجتي أصابها شئ كأنه الهواء الأصفر فقلت بل هو هو فاصفر وجهه وسمعني آخر من بني عمنا فاصفر وجهه وخرج صباحا باهله من القرية. أما انا فسلمت من هذا المرض ولم يصبني وقال لي أهل بيتنا لا شك انه سيدفع الله عنا لما نسمعه من أهل القرية من الدعاء لك، وضاقت بنا أمور المعيشة فكنا نشتري الذرة البيضاء المد النباطي بثلاثين إلى اثنين وثلاثين قرشا فنقتات به ونشتري لأخت لنا في مجدل سلم ما يكفيها وبناتها الثلاث فكنا نطبخه مع اللحم كما نطبخ الأرز ونجرشه ونعمل منه مع اللحم كبة بالصينية ونطبخه مع الحليب كالأرز بالحليب ودعينا مرة لتشييع جنازة في بنت جبيل فوضعوا طعاما فاخرا كالذي كان يصنع قبل الحرب لأن أهل بنت جبيل كانوا يبيعون ويشترون ابان الحرب فاثروا من ذلك وكان معنا جماعة من العلماء فلما وضع الطعام تهاووا عليه بنهم زائد إما انا فرفعت يدي من الطعام ولم أستطع ان أسيغه وان كنت مثلهم تألما من حالتهم.
وفي هذه الأثناء طلب أهل العلم للخدمة العسكرية ولم يكن لهم من مخلص منها الا امامة الجوامع وكان القانون العثماني لا يقبل لامامة الجامع الا من كان عنده براءة سلطانية أو مراسلة شرعية والشيعة ليس عندهم شئ من ذلك فبقوا حائرين وحضروا إلى صيدا يتداولون في الأمر وأرسلوا إلى الوالي يسترحمون اعفاءهم من البراءة السلطانية والمراسلة الشرعية إذ لا يوجد عند واحد منهم ذلك واتفق ان حضر إلى بيروت عدد كثير من شيعة جبل عامل طلبوا للخدمة العسكرية وساروا بمظاهرة حماسية نحو سراي الوالي وانضم إليهم اضعافهم من المتفرجين فلما رأى الوالي هذا الجمع سال عنه فأخبر انهم أهل جبل عامل جاءوا متطوعين في الجيش فأبرق الوالي حالا إلى استانبول يخبر بذلك ويطلب اعفاء أئمة الجماعة من البراءة والمراسلة فجاءه الجواب بان أئمة الجوامع من الشيعة معفوون من الخدمة العسكرية ولا يشترط ان يكون معهم براءة ولا مراسلة وجاءت البشارة بذلك إلى صيدا وغيرها. واتفق ان بعض من ليس معه براءة ولا مراسلة من اخواننا السنيين جاء يطلب امامة جامع مدعيا انه شيعي فرد طلبه لأنه معروف بغير ذلك.
وكنت أخذت وثيقة بامامة جامع فاضطررت إلى الذهاب لصيدا للتأشير عليها وكان رئيس الدائرة بكباشيا اسمه إسحاق أفندي وتحت يده أحد المنتسبين إلى العلم من جبل عامل سمسارا لأخذ الرشوة فاخذ منا أربعة مجيديات لقاء التأشير وذهبنا إلى اللوكندة لنبيت فيها فقال لنا صاحبها اعطوني أسماءكم ووثائقكم لأريها لمن يحضر ليلا من العسكر فلا يزعجوكم فابى صاحبي فلما كانت الساعة الرابعة تقريبا جاء اثنان من العسكر ببنادقهما وطلبوا الوثيقة من صاحبي وجعلا يعتلان ويزعجانه وكان معنا في الحجرة شيخ شائب فجعلا يزعجانه وهو يقول لهما في جملة كلامه انا كنت اليوم عند البكباشي فيقول له أحدهما هب انك كنت عند المشير فانا أريد منك وثيقة فما انصرفا الا بشق الأنفس وكان سبب ذلك حماقة صاحبي إما انا فلم يتعرضا لي بشئ. وكنت هيات قبل الذهاب إلى صيدا ثمن عدلين من الذرية وكان عندنا دابة واحدة فطلبنا من جيراننا عارية دابة لنأتي بالذرة من برعشيد وعهدنا إلى من يأتي بذلك فصادف انه في اليوم الثاني شغلت دابتهم وفي اليوم الثالث صار سعر المد 14 ريالا مجيديا فلما عدنا من صيدا وجدنا ان ما معنا لا يكفي لشراء مد واحد ونحن نصرف في كل يوم ما يقارب ثلاثة أمداد فصرنا نقتات من الحلبة بعد ان نحليها بالماء ونطبخها ونشتريها بالمثاقيل أو نقتات من نبات الأرض بعد ان نطبخه ونضع له شيئا من الملح والزيت ان وجد. وإن كان عندنا شئ من شعير أو حنطة مخلوطة بالتراب وغيره جهد العيال في تنقيته وخبزوا منه أرغفة ووضعوها في الصندوق واقفلوه واعطوا كل واحد من الأولاد كل يوم قطعة رغيف وكان الناس يأكلون البلوط ويطبخون الباقية المعدة لعلف الدواب ويخبزونها ويأكلونها فسمع باسمها أحد أولادنا الصغار فظنها خيرا من الشعير فقال اصنعوا منها خبزا لا من الشعير فلما ذاقها عافها ورجع إلى الشعير، وكثر الشحاذون فجعل أهل البيت يتبرمون بهم فقلت لا ترجعوا أحدا خائبا واعطوا أحدهم ولو بقدر البشلك ثم حلينا الترمس وجعلنا نعطي السائل حبات منه. وجاءني يوما الحاج محمد مبارك وكان من أهل النعمة عند خليل بك الأسعد وأسلافه وأبوه مبارك كان عبدا اسود تزوج بامرأة بيضاء فخرج أولاده مثلها فقال لي انا جوعان فقلت له من ساواك بنفسه ما ظلمك ليس عندنا غير الحلبة وأحضرت اناءين أحدهما له والآخر لي فقال أ لا يوجد لبن فقلت بلى وجئت باناء من اللبن وتغدينا من الحلبة واللبن بغير خبز وقال معي كتب وأريد بيعها فهل تشتريها فوجدت جلها طبع إيران وعندي منها ووجدت بينها شرح الحماسة للخطيب البغدادي فأعطيته أربع مجيديات واخذته وهو لو أعطيته ربع مجيدي لقبل لكني لم أحب ان اشتريه الا بزيادة عن قيمته. ثم جاء موسم الفول فكان فيه الفرج وجعل الناس يطبخونه أو يضعون عليه الملح وياكلونه أو يضعون عليه المخيض وياكلونه والزيت كان معدوما. ثم دخل موسم الحنطة والشعير والعدس وغيرها والثمار ففرج الله عن الناس وانقضت تلك السنون العسرة كما قال الشاعر:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها * فكانها وكأنهم أحلام وانتهت الحرب العامة الأولى ونحن في جبل عامل كل مدة الحرب.
في الهرمل حضر أثناء الحرب إلى شقراء اثنان من أهل الهرمل وطلبا إلينا ان نذهب إلى الهرمل لتدارك أمر فيه اصلاح بين فئتين متنازعتين على ميراث خطير ويخشى من بقاء النزاع وجود مفاسد كثيرة عظيمة ويتوقف تدارك ذلك على حضورنا فسافرنا معهما ولما وردنا بيروت وجدنا السفر صعبا جدا فطلبنا إلى بعض الأصحاب تسهيل أمر سفرنا فقال لا يمكن ذلك الا بحضوركم