قيل له: الذين نقلوا إلينا أقاويلهم، كانوا عالمين بفصل ما بين التوسط والصلح، وبين فصل القضاء، وإبرام الحكم، لأنهم كانوا قوما فقهاء، عارفين بمعاني الكلام، ووجوهه (وقد) نقلوا إلينا قضاياهم، وقطعهم للحكم، بالأقاويل التي ذهبوا إليها.
فإن جاز أن يقال: (إن ذلك كان) على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم، لجاز مثله فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
فلما امتنع أن يقال ذلك في أحكام النبي - صلى الله عليه وسلم - وقضاياه، لان الناقلين لها قد بينوا أنها كانت على وجه القضاء، وإبرام الحكم، وهو قوم لا يجوز على مثلهم، في مثل حالهم الغلط، واشتباه أمر القضاء، والصلح عليهم، حتى لا يفصلوا بينهما، علمنا سقوط قول من تأول مثله من أقاويل السلف في الحوادث، وما علم الناقلين بأن تلك الأحكام لم تكن إلا على وجه القضاء وإلزام الحكم إلا كعلمنا بأقاويل فقهائنا، وجوابات مسائلهم، أنها ليست منهم على وجه الصلح والتوسط بين الخصوم، وأنهم أجابوا فيها على أنها أجوبة تلك المسائل، وأحكامها، دون غيرها.
وأيضا فإن فيما نقلوا إلينا من أقاويلهم وقياسهم، عبادات ليست من حقوق الآدميين، ولا مدخل للصلح والتوسط فيها، نحو: مسائل الصلاة، والصيام، والعتق والطلاق، مما لا يجوز الاصطلاح فيه على خلاف الحكم الواجب، أجاب فيها كل منهم بجوابه فيها، على وجه إبرام الحكم، وإلزام القضية، فدل على سقوط هذا السؤال.
قال أبو بكر: قد ذكرنا صدرا مما احتج به لإثبات القياس والاجتهاد من دلائل الكتاب والسنة، واتفاق الأمة، ونذكر الان ما يدل عليه من جملة حجج العقول والنظر الصحيح.
فنقول وبالله التوفيق: إن العبادات (قد) ترد من الله تعالى على أنحاء ثلاثة: