فكان عبد الرحمن وعثمان يريان تقليد أبي بكر وعمر أولى من اجتهاده، وكان عند علي أن اجتهاده أولى من تقليدهما.
وروي عن عمر أنه سأل ابن مسعود عن مسألة في الصرف، فأجاب فيها بأنه لا بأس به. فقال عمر: لكني أكرهه. فقال ابن مسعود: قد كرهته إذ كرهته.
فترك رأيه تقليد العمر، لأنه غير جائز أن يكون انتقاله عن المذهب الأول إلى الثاني بنظر واستدلال، إذ لم يكن بين القولين مدة يمكن النظر والاستدلال فيها.
وكان أبو الحسن يقول: إن تقليد المجتهد لغيره ممن هو أعلم منه، وترك رأيه لرأيه ضرب من الاجتهاد في تقوية رأي الاخر في نفسه على رأيه، لفضل علمه وتقدمه، ومعرفته بوجوه النظر والاستدلال، فلم يخل في تقليده إياه من أن يكون مستعملا لضرب من الاجتهاد يوجب عنده رجحان قول من قلده على قوله.
قال أبو بكر: ولا فرق عندنا - على قول أبي حنيفة في جواز تقليده لغيره بين أن يقلده ليأخذ به في شئ ابتلي به في أمر نفسه، وبين أن يفتي به غيره، يجوز له أن يفعل ذلك في الامرين جميعا.
لان المسألة التي ذكرها (في كتاب الحدود) إنما ذكرها في القاضي إذا قلد غيره فيما كان ابتلي به من أمر الحكم، فأجاز تقليده غيره في توجيه الحكم به على من خاصم إليه، وإنما كان هكذا من قبل أنا قد بينا أن ذلك ضرب من الاجتهاد في ترجيح قول من قلده على قوله، وإذا ثبت عنده رجحان هذا القول (ثم) جاز له أن يأخذ لنفسه، جاز له أن يفتي به غيره، ويحكم به عليه.