ولو جاز هذا فيما ذكرت لجاز في سائر ما أقام الله تعالى الدلائل عليه.
فلما كان المجتهد فيما وصفنا عندنا جميعا وعند السلف غير معنف في خلافه فيما خالف فيه، علمنا أنه لم ينصب له دلالة على المطلوب بعينه، ولم يكلف إصابته.
ويقال لمن أبى ما قلنا: أخبرنا عن المجتهدين إذا اختلفوا، أتجيز لكل واحد منهم إبرام الحكم بما أداه إليه اجتهاده؟
فإن قال: حتى يعلم حقيقة حكم الله تعالى.
قيل له: فالمختلفون من الصحابة كان المصيب واحدا منهم عندك. أفتقول: إن الباقين أقدموا على ما لم يكن جائزا لهم الاقدام عليه، وأمضوا أحكاما لم يكن جائزا لهم إمضاؤها؟
فإن قال: كذلك فعلوا. طعن في السلف، ولحق بالنظام وطبقته، في طعنهم على الصحابة في الطعن بالاجتهاد، وجوز إجماعهم على خطأ، لأنه لو لم يكن يجوز لهم إمضاء ما أداهم إليه اجتهادهم، لما أجمعوا على ترك النكير على المختلفين في أحكام الحوادث بما أمضوه من ورائهم. وأحد من الفقهاء لا يجيز ذلك على الصحابة ولا على أحد من أهل سائر الأعصار من المجتهدين.
فإذا قد ثبت أن لكل واحد من المجتهدين إمضاء الحكم بما أداه إليه اجتهاده. وإذا كان مأمورا بذلك فغير جائز أن يكون مأمورا (به) وهو غير مصيب لحكم الله تعالى، لان حكم الله تعالى هو ما أمر به، فواجب أن يكون كل واحد من المجتهدين على اختلافهم مصيبا لحكم الله تعالى الذي كلفه من جهة الاجتهاد، لاستحالة أن يكون فاعلا لما أمر به مخطئا فيه بعينه.
فيثبت بذلك أن الحق في جميع أقاويل المختلفين، وأن كل مجتهد في ذلك مصيب.
فإن قبل: ما أنكرت أن يكون مصيبا في اجتهاده للحكم الذي هو مأمور بإصابته؟
قيل: وهذا متناقض أيضا مستحيل، لان الحكم إذا كان موجبا بالاجتهاد - والاجتهاد صواب مأمور به - فغير جائز أن يكون موجبه خطأ غير مأمور به، لأنه يستحيل أن يكون مأمورا بالسبب ومنهيا عن مسببه.