ومنها: أن أحكام الحوادث إنما يصح تكليفها على الوجه الذي يجوز ورود النص به، كاختلاف فرض المسافر والمقيم، والحائض والطاهر.
ولما امتنع ورود النص في سائر الأشياء التي ذكرنا على الوجوه المختلفة لم يصح تكليف اعتقادها على تلك الوجوه.
فإن قال قائل: ما أنكرت أن يكون على واحد من المختلفين في صفات الله تعالى وأفعاله إنما كلف ما غلب في ظنه، واستولى على رأيه، دون إصابة الحقيقة، إذ لا يستحيل وجود الظن من كل واحد منهم على الوجوه المختلفة، فيصح تكليفهم ذلك، دون المغيب عند الله تعالى من حقيقته.
كما كلف المتحري للكعبة الاعتقاد بما يغلب في ظنه من جهتها، مع اختلاف الجهات وتضادها، فكلف واحد الاعتقاد بأنها في جهة الشمال، إذا غلب ذلك في ظنه، وكلف الآخر الاعتقاد بأنها في جهة الجنوب، عند غلبه ذلك في ظنه، مع تضاد الجهتين، واستحالة ورود النص بهما، والكعبة لها حقيقة واحدة عند الله تعالى، وجهة واحدة لا يؤثر فيها اجتهاد المجتهدين، ولا يغيرها عن جهتها التي هي فيها اختلاف المختلفين.
وكذلك فرض على واحد غلب في ظنه عدالة الشهود، اعتقاد عدالتهم وإمضاء الحكم بشهادتهم، وفرض على آخر غلب في ظنه (فسقهم): اعتقاد فسقهم، وإلغاء شهادتهم، ومعلوم أنهم لا يخلون من أن يكونوا عند الله تعالى عدولا أو فساقا، قد حصلت حالهم عند الله تعالى على إحدى جهتين.
وكذلك النفقات، وتقويم المستهلكات، ومقادير المكيلات، والموزونات، قد تختلف آراء المجتهدين فيها على حسب ما يغلب في ظنونهم، ومعلوم أن لهذه الأمور حقائق عند الله تعالى، قد حصلت على وجه واحد، إما موافقة لظن بعضهم، أو مخالفة لظن جميعهم، إذ جائز أن يكون الحق في غير ما قالوا: ومع ذلك فغير جائز ورود النص بها على الوجوه التي حصل اختلاف المختلفين فيها، فقد صح تكليفهم الظنون على اختلافها وتضادها،