اعلم أنه قد ظهر مما تقدم ان الله تعالى أمر العباد ونهاهم لبيان ما يستحقونه من رضا الله وسخطه وثوابه وعقابه ومراتب الثواب والعقاب ولا ولا ينكشف حالهم الا بالتكليف ما يخالف هواهم والا كانوا عبيد هواهم لا عبيد مولاهم فجعلها على أقسام ليختبر بها جميع المكلفين من الأنام ولما كانت أحوالهم مختلفة ورغباتهم متفاوتة جعل التكاليف مختلفة على نحو اختلافهم فحيث كانوا منقسمين إلى أقسام اختبر بما يوافق حالهم أحدها من يكره المتاعب وهو في الراحة راغب متهاون متكاسل أحب الأشياء إليه راحة بدنه وقراره في مكانه فاختبره بالامر بما يترتب عليه تعب الأعضاء وزيادة المشقة والعناء فأمره بالصلاة والطهارة والقيام على الاقدام وترك لذة الاضطجاع والاستراحة بالجلوس والمنام ثانيها من شغل قلبه بحب المال ولا يبالي بالنفس والولد والعيال فاختبره بايجاب بذله في الزكاة والخمس والنفقات والوفاء ببعض أقسام النذور والعهود والكفارات وغيرها من الحقوق الماليات ثالثها من همه بطنه فكأنه من الانعام لأهم له ولا عناية الا الشراب والطعام وبعض الملاذ التي يحرمها الصيام فاختبره بالتكليف بالصيام ومنعه من الأكل والشرب والجماع ونحوها رابعها من يكره الخروج من مكانه ومفارقة أولاده ونسوانه فهمه حب الحضر وكراهة السفر فاختبره بالامر بالحج والعمرة ليظهر بذلك امره خامسها من يحب الحياة ويكره التعرض للحرب والمبارزة والضرب خوفا من الموت وبذلك غلب الجبن عليه متى سمع صبحة طار قلبه أو أو سمع غوغاء الحرب والضرب ذهب لبه فاختبره بالتكليف بالجهاد وبيع نفسه برضى رب العباد سادسها من غلب عليه حب الرياسة و وقوف الناس بين يديه وتقبيل يديه وقدميه وركوعهم له وخفق النعال خلفه وصهيل الخيل عقبه فاختبره بمنع التكبر والتجبر واحتقار عباد الله وأمره بالتواضع للناس سابعها من يحب الملاهي ويرغب في اللهو والغناء واللعب بالقمار ودق الطبول وصوت المزامير والرقص وأنواع اللذات القبيحة والشهوات فاختبره بتحريم ذلك عليه ومنعه عنه ثامنها من همه رضي المخلوق عنه وان يمدح في المحافل وان يعتقد الناس بديانته وينسبونه إلى التقوى والصلاح فاختبر بايجاب الغضب عليه لله والامر بالمعروف والنهي عن المنكر المبحث السابع في بيان سبب العصيان اعلم أن النفس سلطان على البدن وأعضائه رعيته لها والحكيم الدليل المرشد للسلطان هو العقل متى اصغي السلطان إلى الدليل واستمع لقوله (بقوله) واسترشد بارشاده صلح أمر السلطان وعدل في الرعية وأمرهم بالصلاح ونهاهم عن الفساد ويزيد في الرشاد ويعين على سلوك طريق السداد ارشاد رب العباد وان طغى السلطان على الدليل ولم يصنع لقوله ولا عمل بارشاده ودلالته واخذ على غير الطريق ضل وأضل اتباعه ورعيته وصار بأمر وينهى على غير بصيرة ويزيده في الضلال وينتقل إلى أسوء حال حيث يحسن له طريق الهلاك فإنه عدو محيل مزور قد قلب الأمور وباشر الاضلال والافساد برهة من الدهور فالعين في ابصارها والاذن في سماعها واللسان في نطقه واليد في بطشها والرجل في مشيها وسائر الأعضاء حضور في باب السلطان متهيأة لخدمته ان أمرها بحسن فعلته أو نهاها عنه تجنبنه أو دعاها إلى قبيح اطاعته أو نهاها عنه تركنه فإن لم يقع اختلال في السلطان لاختلال المرشد أو لضعفه وعدم الاستماع له لم يقع اختلال في الرعية والا اختلت فلا تفعل الأعضاء فعلا الا عن أمر السلطان بل في الحقيقة هي بمنزلة الآلات وحالها كحال الجمادات وتعلق المؤاخذة بها كتعلقه بها فكل صلاح و فساد ينتهى إليها ولا مؤاخذة فيه الا عليها فكل قبيح يصدر من الانسان مرجعه إلى النفس الامارة والشيطان وكل أمر من الأمور الحسان مرجعه إلى العقل ومعونة الملك الديان. المبحث الثامن في تقسيم المعاصي جميع الذنوب والخطايا بين قسمين الأول ما يتعلق بالنفس ويصدر عنها من دون واسطة الجوارح وان توقفت المؤاخذة في بعضها على الاظهار كفساد العقيدة والكبر والحسد والعجب والريا وبغض أولياء الله وبغض المؤمنين وحب الدنيا المضادة للآخرة وحب الرياسة والتفكر في طريق الاهتداء إلى المظالم والحيلة والتزوير إلى غير ذلك الثاني ما يتعلق بها بواسطة الجوارح كالزنا واللواط والاستمناء والوطي في الحيض ونحوها مما يتعلق بالفروج والسب والشتم والقذف والكذب والغيبة والنميمة والهجاء والغناء والبهتان مما يتعلق باللسان والنظر إلى عورات غير الأزواج ونحوها والنظر بشهوة إلى الذكور المرد الحسان والى الأجنبيات من النسوان ونحوها مما يتعلق بالعينين واستماع الملاهي والغنا والغيبة ونحوها مما يتعلق بالاذنين والضرب للمظلومين وقتلهم واخذ المال الحرام ونحوه مما يتعلق باليدين واكل الحرام وشربه وابتلاعه واكل النجس ونحوها مما يتعلق بالبطن ومثله يجرى في باقي الجوارح وكل من القسمين ينقسم إلى قسمين معاصي صغار وكبار والصغار مع الاصرار بالعزم أو كثرة التكرار يرجع إلى الكبار والمراد ما تعد كبيرة في نظر الشرع حتى يقال ذنب عظيم واثم كبير و يعرف ذلك من ممارسته الشرع كما أن معصية العبد للمولى منها ما يستعظمها الناس ويقولون عصى مولاه معصية عظيمة كبيرة و منها ما يسمونها صغيرة ويجرى مثل ذلك في الطاعات ولا تخص الكبائر بعد مخصوص من سبع أو تسع أو اثنتي عشرة أو سبعين أو كونها إلى السبعمائة أقرب منها إلى السبعين ولا بجهات مخصوصة كالتوعد عليها بالنار أو الوجود في القران أو الثبوت بدليل قاطع ولا بجهة عامة بمعنى ان كل معصية إذا نظرت إلى من عصيت كبيرة ولا بمعنى ان الصغيرة يختص بالحد الأسفل والكبيرة بالحد الاعلى
(٣٩٢)