الحلال من الحرام ثالثها ان التكليف في نفسه من أعظم اللطف وأكبر النعم لاستدعائه حصول الشرف التام والمنزلة الرفيعة في أعلا مقام حيث إن صفة العبودية لله والخدمة له وشرف الحضور والقيام بين يديه وتوجيه الخطاب في الدعاء والمناجات من العبد إليه وبذلك تحصل له المرتبة العظمى والمزية الكبرى والقدر العظيم والفخر الجسيم رابعها ان المبدء الفياض جل وعلا يجب عليه بمقتضى فيضه ولطفه وكرمه ان يفيض نعمه على عباده ويجعلهم غرقى في بحار لطفه وكرمه وإذا غمرتهم النعم وشملهم اللطف والكرم ولم يصدر منهم صورة العوض اخذهم الخجل وأحاط بهم الفشل لعدم صدور المقابل ووجدان العبد نفسه غير قابل فمن أعظم نعماء الله عليه واحسانه التام إليه امره له بالطاعات وتجنب المعاصي والتبعات ليرى نفسه وانه قد أدي بعض ما يقابل تلك النعم السابغات وإن كان كسحاب ترد البحر ثم تمطر عليه من مائه فان الكل منه وكلما كان من الحسن صادر عنه خامسها ان جميع ما أمر به بعد التأمل التام ترى فيه صلاحا للمأمور إما في اصلاح عقله أو نفسه أو بدونه أو أمر خارجي يرتبط به وجميع ما نهى عنه لا يخفى على صاحب الذهن الوقاد انه لا يخلوا من فساد حتى أن بعض العقلاء ادعوا انهم يعرفون احكام الشرع أصولا وفروعا بادراك عقولهم من تتبع الأدلة وبعض الأطباء ادعى ان جميع الأغذية المحرمة تعرف بمقتضى علم دون الطب وبعد بيان ذلك كان من الواجب على الله بمقتضى لطفه بيان الاحكام لجميع المكلفين من الرعية وبذلك يعلم المستحق للثواب من المستحق للمؤاخذة والعقاب والكريم إذا خلى من الحكمة جاز له ان يبنى القصور المشيدة والنمارق الممهدة والمأكل والمشارب الطيبة ويضع فيها الكلاب والخنازير والعاصي إذا لم يشمله عفو الله تعالى أدنى رتبة منها واما الحكيم فيضع الأشياء في مواضعها ويعطى كل عبد من عبيده ما يستحقها سادسها انه باعث على ترتب اللذات بالخدمة والخطاب والمناجات لجبار الأرض (الأرضين) والسماوات وأي لذة أعظم من القيام بين يدي مالك الملوك ومكالمته وتوجيه الخطاب إليه سابعها اشتماله على لذة الوفاء والآتيان بصورة الجزاء لتلك النعم التي ملأت ما بين الأرض والسماء ثامنها انه أقرب في رجاء نيل النعم ودفع النقم وتوهم ان الاتيان بالقليل في مقابلة ذلك اللطف الجزيل الجليل باعث على العكس مردود بان قدر النعمة عند المنعم عليه بمقدار احتياجه إليه إلى غير ذلك المبحث الرابع انه لما علم للواجب جل وعلا مطالب يريدها من العبد لصلاح يعود إلى العبد لا إليه لأنه تعالى غنى بذاته عما عداه والا لكان محتاجا ولم يكن هو الله وعلى مناهي يترتب على العبد منها الفساد فنهى عن فعلها المكلفين من العباد فقد وجب على الله اخبارهم بما أراد وما نهى عنه لترتب الفساد وإن كانت طرق الاخبار بأوامره ونواهيه محصورة بأمور هي هذه المذكورة لزم اختيار المختار منها وتعيين ما يصدر انتفاع المكلفين فمنها ان يخلق الله سبحانه صوتا في بعض الأجسام من هواء أو ماء أو شجر أو حجر أو مدر وذلك لا يوافق طريق الامتحان والاختبار ولم يعلم أن ذلك من الله بل جوز ان يكون من الشياطين أو من بعض الجان أو غيرهم من الأشرار ومنها ان يرسل بعض الملائكة أو بعض الجان وذلك أيضا لا يوافق الامتحان مصافا إلى انهم ان لم يأتوا بمعجز لهم لم يسمع كلامهم وارتفع عن العباد ملامهم وان اتوا ببعض المعاجز جوز المكلفون قدرتهم عليها من دون استناد إلى الخالق تعالى لانهم لا يعرفون حقيقتهم ويحتملون قابليتهم ومنها ان يرسل شخصا من نوعهم يعرفون حقيقته ومقدار قابلية ويحيلون استناد المعاجز إلى قدرته وبمقتضى الحكمة لا يجوز صدور المعجز عنه والا لا نقطع طريق العرفان وما هو المحبوب أو المكروه عند الملك الديان بل لا بد ان يظهر حاله إما باظهار صفات النقص فيه من خفة العقل أو زيادة الجهل أو بارتكابه الافعال الردية التي يهتدى بها أدنى الجهال فيه إلى عدم القابلية أو بظهور انها تصوير ليست مستندة إلى قدرة البصير الخبير أو بادعائه دعاوى تنكرها العقول ولا تدخل عندهم في حيز القبول إلى غير ذلك من الأسباب الدالة على أنه ساحر كذاب ومفتر مرتاب فقد انحصر طريق معرفة تكاليف رب الأرض والسماء بارسال الرسل والأنبياء وطريق معرفة نبوتهم ورسالتهم بالاتيان بالمعجزات وخوارق العادات فالانقطاع عن النبي انقطاع عن العبودية واعراض عن جميع تكاليف رب البرية فالكفر بواحد من الأنبياء كفر بخالق السماء ومبدع الأشياء المبحث الخامس انه قد تبين مما تقدم ان طريق معرفة أوامر الله ونواهيه لا يتوصل إليها الا بواسطة الأنبياء وان معرفتهم لا يتوصل إليها الا بشهادة الآيات والمعجزات فمن الواجب العيني على كل مكلف ان يحد ويجتهد في معرفة النبي المبعوث لابلاغ الاحكام وتمييز الحلال والحرام والمنكر له منكر لثبوت الأحكام الشرعية ناف لوجوب الطاعة والخدمة لرب البرية وهو على حد الكفر بالربوبية وقد دلت المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة على أن النبي المبعوث إلينا والمفروضة طاعته من الله علينا أعلى الأنبياء قدرا وارفع الرسل في الملاء الاعلى ذكرا الذي بشرت الرسل بظهوره وخلقت الأنوار كلها بعد نوره محمد المختار واحمد صفوة الجبار ذو الآيات الطاهرة والمعجزات المتكاثرة التي قصرت عن حصرها السن الحساب وكلت عن سطرها أقلام الكتاب كانشقاق القمر وتظليل الغمام وحنين الجذع وتسبيح الحصى وتكليم الموتى ومخاطبة البهائم وغرس الأشجار على الفور في القفار وأتمار يابس الشجر وقصة الغزالة صبح خشفيها وخروج الماء
(٣٨٥)