فلا يشترط إلا إنزال آية وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله: * (أو لم يكفهم) * عبارة تنبئ عن كون القرآن آية فوق الكفاية، وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسئ أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبئ عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله: * (أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب) * وهذا لأن القرآن معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها لوجوه: أحدهما: أن تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبانا وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر، فلو لم يكن واحد يؤمن بكتب الله ويكذب بوجود هذه الأشياء لا يمكن إثباتها معه بدون الكتاب وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فنقول له فأت بآية من مثله الثاني: هو أن قلب العصا ثعبانا كان في مكان واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد، وههنا لطيفة وهي أن آيات النبي عليه السلام كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأن من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض، لأن الخسوف إذا وقع عم وذلك لأن نبوته كانت عامة لا تختص بقطر دون قطر وغاضت بحيرة ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر وانهدت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاما بأنه يكون أمر عام الثالث: هو أن غير هذه المعجزة الكافر المعاند يقول إنه سحر عمل بدواء، والقرآن لا يمكن هذا القول فيه.
ثم إنه تعالى قال: * (إن في ذلك لرحمة) * إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله، وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب، لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة، لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله: * (وذكرى) * إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان.
ثم قال تعالى: * (لقوم يؤمنون) * يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضبا على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم.
ثم قال تعالى: * (قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا) * لما ظهرت رسالته وبهرت دلالته ولم يؤمن به المعاندون من أهل الكتاب قال كما يقول الصادق إذا كذب وأتى بكل ما يدل على صدقه ولم يصدق الله يعلم صدقي وتكذيبك أيها المعاند وهو على ما أقول شهيد يحكم بيني وبينكم، كل ذلك إنذار وتهديد يفيده تقريرا وتأكيدا، ثم بين كونه كافيا بكونه عالما بجميع الأشياء. فقال: * (يعلم ما في السماوات والأرض) * وههنا مسألة: وهي أن الله تعالى قال في آخر الرعد * (ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) * (الرعد: 43) فأخر شهادة أهل الكتاب، وفي هذه السورة قدمها حيث قال: * (فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) * (العنكبوت: 47) ومن هؤلاء من يؤمن به أي من أهل الكتاب فنقول الكلام هناك مع المشركين، فاستدل عليهم بشهادة غيرهم ثم