امتنعوا عمن قصدهم بمكروه، ولاستغنوا عن الطلب لما في أيدي الناس. فإذا لم يكن كذلك وكان المدعون لذلك أسوأ الناس حالا وأكثرهم طمعا واحتيالا وتوصلا لأخذ دراهم الناس وأظهرهم فقرا وإملاقا فقال علمت أنهم لا يقدرون على شئ من ذلك. ورؤساء الحشو والجهال من العامة من أسرع الناس إلى التصديق بدعاوى السحرة والمعزمين وأشدهم نكيرا على من جحدها، ويروون في ذلك أخبارا مفتعلة متخرصة يعتقدون صحتها، كالحديث الذي يروون أن امرأة أتت عائشة فقالت: إني ساحرة فهل لي توبة؟
فقالت: وما سحرك؟ قالت: سرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ببابل لطلب علم السحر فقالا لي: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا! فأبيت، فقالا لي:
اذهبي فبولي على ذلك الرماد! فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا فعلت!
وجئت إليهما فقلت: قد فعلت، فقالا: ما رأيت؟ فقلت: ما رأيت شيئا، فقالا:
ما فعلت، اذهبي فبولي عليه! فذهبت وفعلت فرأيت كأن فارسا قد خرج من فرجي مقنعا بالحديد حتى صعد إلى السماء، فجئتهما فأخبرتهما فقالا: ذلك إيمانك خرج عنك وقد أحسنت السحر! فقلت: وما هو؟ فقالا: لا تريدين شيئا فتصورينه في وهمك إلا كان.
فصورت في نفسي حبا من حنطة، فإذا أنا بالحب، فقلت له: أنزرع! فانزرع وخرج من ساعته سنبلا، فقلت له: انطحن وانخبز إلى آخر الأمر! حتى صار خبزا. وإني كنت لا أصور في نفسي شيئا إلا كان. فقالت لها عائشة: ليست لك توبة! فيروي القصاص والمحدثون الجهال مثل هذا للعامة، فتصدقه وتستعيده، وتسأله أن يحدثها بحديث ساحرة ابن هبيرة، فيقول لها: إن ابن هبيرة أخذ ساحرة فأقرت له بالسحر، فدعا الفقهاء فسألهم عن حكمها، فقالوا: القتل! فقال ابن هبيرة: لست أقتلها إلا تغريقا! قال: فأخذ رحى البزر فشدها في رجلها وقذفها في الفرات، فقامت فوق الماء مع الحجر، فجعلت تنحدر مع الماء، فخافوا أن تفوتهم، فقال ابن هبيرة: من يمسكها وله كذا وكذا؟ فرغب رجل من السحرة كان حاضرا فيما بذله فقال: أعطوني قدح زجاج فيه ماء! فجاؤوه به، فقعد على القدح ومضى إلى الحجر فشق الحجر بالقدح فتقطع الحجر قطعة قطعة، فغرقت الساحرة. فيصدقونه. ومن صدق هذا فليس يعرف النبوة ولا يأمن أن تكون معجزات الأنبياء عليهم السلام من هذا النوع وأنهم كانوا سحرة، وقال الله تعالى (ولا يفلح الساحر حيث أتى) [طه: 69].
وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، وذلك أنهم زعموا أن النبي عليه السلام سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: (إنه يتخيل لي أني أقول الشئ وأفعله ولم أقله ولم أفعله) وأن امرأة يهودية سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة، حتى