قال أبو بكر: فلم يجعل الشافعي الساحر كافرا بسحره وإنما جعله جانيا كسائر الجناة، وما قدمنا من قول السلف يوجب أن يكون مستحقا للقتل باستحقاق سمة السحر، فدل ذلك على أنهم رأوه كافرا، وقول الشافعي في ذلك خارج عن قول جميعهم، إذ لم يعتبر أحد منهم قتله لغيره بعمله السحر في إيجاب قتله.
قال أبو بكر: وقد بينا فيما سلف معاني السحر وضروبه، وأما الضرب الأول الذي ذكرنا من سحر أهل بابل في القديم ومذاهب الصابئين فيه، وهو الذي ذكر الله تعالى في قوله: (وما أنزل على الملكين) فيما يرى والله أعلم، فإن القائل به والمصدق به والعامل به كافر، وهو الذي قال أصحابنا فيه عندي إنه لا يستتاب. والدليل على أن المراد بالآية هذا الضرب من السحر، ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا نظير قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن الأخنس قال: حدثنا الوليد بن عبد الله عن يوسف بن ماهك عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس علما من النجوم اقتبس شعبة من السحر). وهذا يدل على معنيين، أحدهما: أن المراد بالآية هو السحر الذي نسبه عاملوه إلى النجوم، وهو الذي ذكرناه من سحر أهل بابل والصابئين، لأن سائر ضروب السحر الذي ذكرنا ليس لها تعلق بالنجوم عند أصحابها. والثاني: أن إطلاق لفظ السحر المذموم يتناول هذا الضرب منه، وهذا يدل على أن التعارف عند السلف من السحر هو هذا الضرب منه ومما يدعي فيه أصحابها المعجزات، وإن لم يعلقوا ذلك بفعل النجوم دون غيرها من الوجوه التي ذكرنا، وأنه هو المقصود بقتل فاعله إذ لم يفرقوا فيه بين عامل السحر بالأدوية والنميمة والسعاية والشعوذة وبين غيره. ومعلوم عند الجميع أن هذه الضروب من السحر لا توجب قتل فاعلها إذا لم يدع فيه معجزة لا يمكن العباد فعلها، فدل ذلك على أن إيجابهم قتل الساحر إنما كان لمن ادعى بسحره معجزات لا يجوز وجود مثلها إلا من الأنبياء عليهم السلام دلالة على صدقهم. وذلك ينقسم إلى معنيين، أحدهما: ما بدأنا بذكره من سحر أهل بابل، والآخر: ما يدعيه المعزمون وأصحاب النيرنجيات من خدمة الشياطين لهم.
والفريقان جميعا كافران، أما الفريق الأول فلأن في سحره تعظيم الكواكب واعتقادها آلهة. وأما الفريق الثاني فلأنها وإن كانت معترفة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنها حيث أجازت أن تخبرها الجن بالغيوب وتقدر على تغيير فنون الحيوان والطيران في الهواء والمشي على الماء وما جرى مجرى ذلك فقد جوزت وجود مثل أعلام الأنبياء عليهم السلام مع الكذابين المتخرصين، ومن كان كذلك فإنه لا يعلم صدق الأنبياء عليهم السلام لتجويزه كون مثل هذه الأعلام مع غيرهم، فلا يأمن من أن يكون جميع من ظهرت على يده متخرصا ذلك