تعالى بعلم ما في الأرحام ولم يطلع عباده عليه، فمن أين لك القضاء باجتماع الدم في حال الطهر ثم سيلانه في وقت الحيض؟ وما أنكرت ممن قال إنما يجتمع من سائر البدن ويسيل في وقت الحيض لا قبل ذلك؟ ويكون أولى بالحق منك، لأنا قد علمنا يقينا وجوده في هذا الوقت ولم نعلم وجوده في وقت قبله فلا يحكم به لوقت متقدم، وإذ قد بينا وقوع الاسم عليهما وبينا حقيقة ما يتناوله هذا الاسم في اللغة. فليدل على أنه اسم للحيض دون الطهر في الحقيقة وأن إطلاقه على الطهر إنما هو مجاز واستعارة، وإن كان ما قدمنا من شواهد اللغة وما يحتمله اللفظ من حقيقتها كافية في الدلالة على أن حقيقته تختص بالحيض دون الطهر، فنقول: لما وجدنا أسماء الحقائق التي لا تنتفي عن مسمياتها بحال ووجدنا أسماء المجاز قد يجوز أن تنتفي عنها في حال وتلزمها في أخرى، ثم وجدنا اسم القرء غير منتف عن الحيض بحال ووجدناه قد ينتفي عن الطهر لأن الطهر موجود في الآيسة والصغيرة وليستا من ذوات الأقراء، علمنا أن اسم القرء للطهر الذي بين الحيضتين مجاز وليس بحقيقة، سمي بذلك لمجاورته للحيض كما يسمى الشئ باسم غيره إذا كان مجاورا له وكان منه بسبب، لا ترى أنه حين جاور الحيض سمي به وحين لم يجاوره لم يسم به؟ فدل ذلك على أنه مجاز في الطهر حقيقة في الحيض.
ومما يدل على أن المراد الحيض دون الطهر، أنه لما كان اللفظ محتملا للمعنيين واتفقت الأمة على أن المراد أحدهما، فلو أنهما تساويا في الاحتمال لكان الحيض أولاها، وذلك لأن لغة النبي صلى الله عليه وسلم وردت بالحيض دون الطهر بقوله: (المستحاضة تدع الصلاة أيام إقرائها) وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: (فإذا أقبل قرؤك فدعي الصلاة، وإذا أدبر فاغتسلي وصلي ما بين القرء إلى القرء). فكان لغة النبي صلى الله عليه وسلم أن القرء الحيض، فوجب أن لا يكون معنى الآية إلا محمولا عليه، لأن القرآن لا محالة نزل بلغته صلى الله عليه وسلم، وهو المبين عن الله عز وجل مراد الألفاظ المحتملة للمعاني ولم يرد لغته بالطهر، فكان حمله على الحيض أولى منه على الطهر.
ويدل عليه ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن مسعود قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن مظاهر بن أسلم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (طلاق الأمة ثنتان وقرؤها حيضتان) قال أبو عاصم: فحدثني مظاهر قال: حدثني به القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله، إلا أنه قال: (وعدتها حيضتان). وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى قال: حدثنا عمر بن شبيب، عن عبد الله بن عيسى، عن عطية، عن