وإنما بذل ماله لصاحبه، فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالصلح وأن يستهما عليه، والاستهام هو الاقتسام. ويدل على أن القسمة في العقار وغيره واجبة إذا طلبها أحدهما. ويدل أيضا على أن الحاكم يأمر بالقسمة. ويدل على جواز البراءة من المجاهيل أيضا، لأنه أخبر بجهالة المواريث التي قد درست ثم أمرهما مع ذلك بالتحليل، وعلى أنه لو لم يذكر فيه أنها مواريث قد درست لكان يقتضي قوله (وليحلل كل واحد منكما صاحبه) جواز البراءة من المجاهيل لعموم اللفظ، إذ لم يفرق بين المجهول من ذلك والمعلوم. ودل أيضا على جواز تراضي الشريكين على القسمة من غير حكم الحاكم. ودل أيضا على أن من له قبل رجل حق فوهبه له فلم يقبله أنه لا يصح ويعود الملك إلى الواهب، لأن كل واحد منهما رد ما وهبه الآخر وجعل حق نفسه لصاحبه، ولما لم يفرق في ذلك بين الأعيان والديون وجب أن يستوي حكم الجميع إذا رد البراءة والهبة في وجوب بطلانهما. ويدل أيضا على أن قول القائل: (لفلان من مالي ألف درهم) أنه هبة منه وليس بإقرار، لأنه عليه السلام لم يجعل قول كل واحد منهما (الذي لي له) إقرارا، لأنه لو جعل إقرارا لجاز عليه ولم يحتاجا بعد ذلك إلى الصلح والتحليل والقسمة، وكذلك قال أصحابنا فيمن قال: (لفلان من مالي ألف درهم). ويدل أيضا على جواز التحري والاجتهاد في موافقة الحق وإن لم يكن يقينا. لقوله عليه السلام: (وتوخيا للحق) أي تحريا واجتهدا. ويدل أيضا على أن الحاكم جائز له أن يرد الخصوم للصلح إذا رأى ذلك، وأن لا يحملها على مر الحكم، ولهذا قال عمر: (ردوا الخصوم كي يصطلحوا).
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال:
أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من صاحبه فأقضي له على نحو مما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشئ فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار).
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الربيع بن نافع قال: حدثنا ابن المبارك، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة قالت:
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: (أما إذ فعلتما ما فعلتما فاقتسما وتوخيا الحق ثم استهما ثم تحالا) وهذان الحديثان في معنى الحديث الذي قدمناه في حظر أخذ ما يحكم له به الحاكم إذا علم أنه غير مستحق له، وفيهما فوائد أخر، منها: أن قوله في حديث زينب