عليكم حرام) يعني أموال بعضكم على بعض. وأكل المال بالباطل على وجهين: أحدهما أخذه على وجه الظلم والسرقة والخيانة والغصب وما جرى مجراه، والآخر: أخذه من جهة محظورة، نحو القمار وأجرة الغناء والقيان والملاهي والنائحة وثمن الخمر والخنزير والحر وما لا يجوز أن يتملكه وإن كان بطيبة نفس من مالكه، وقد انتظمت الآية حظر أكلها من هذه الوجوه كلها. ثم قوله: (ولا تدلوا بها إلى الحكام) فيما يرفع إلى الحاكم فيحكم به في الظاهر ليحلها، مع علم المحكوم له أنه غير مستحق له في الظاهر، فأبان تعالى أن حكم الحاكم به لا يبيح أخذه، فزجر عن أكل بعضنا لمال بعض بالباطل. ثم أخبر أن ما كان منه بحكم الحاكم فهو في حيز الباطل الذي هو محظور عليه أخذه، وقال في آية أخرى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) [النساء: 29] فاستثنى من الجملة ما وقع من التجارة بتراض منهم به ولم يجعله من الباطل، وهذا هو في التجارة الجائزة دون المحظورة.
وما تلونا من الآي أصل في أن حكم له الحاكم بالمال لا يبيح له أخذ المال الذي لا يستحقه. وبمثله وردت الأخبار والسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجلان يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه، فمن قضيت له بحجة أراها فاقتطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة في عنقه) فبكى الرجلان، فقال كل واحد منهما: يا رسول الله حقي له، فقال عليه السلام: (لا، ولكن اذهبا فتوخيا للحق ثم استهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه). ومعنى هذا الخبر مواطئ لما ورد به نص التنزيل في أن حكم الحاكم له بالمال لا يبيح له أخذه. وقد حوى هذا الخبر معاني أخر، منها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يقضي برأيه واجتهاده فيما لم ينزل به وحي لقوله عليه السلام:
(أقضي بينكما برأي فيما لم ينزل علي فيه). وقد دل ذلك أيضا على أن الذي كلف الحاكم من ذلك الأمر الظاهر، وأنه لم يكلف المغيب عند الله تعالى. وفيه الدلالة على أن كل مجتهد فيما يسوغ فيه الاجتهاد مصيب، إذ لم يكلف غير ما أداه إليه اجتهاده، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه مصيب، في حكمه بالظاهر وإن كان الأمر في المغيب خلافه، ولم يبح مع ذلك للمقضي له أخذ ما قضى له به؟ ودل أيضا على أن الحاكم جائز له أن يعطي إنسانا مالا ويأمر له به وإن لم يسع المحكوم له أخذه إذا علم أنه غير مستحق ودل أيضا على جواز الصلح عن غير إقرار، لأن واحدا منهما لم يقر بالحق