في أن العقود وفسخها متى حكم بها الحاكم مما لو ابتدأ أيضا بحكم الحاكم وقع.
ويدل على ذلك أيضا أن الحاكم مأمور بإمضاء الحكم عند شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة، ولو توقف عن إمضاء الحكم بما شهد به الشهود من عقد أو فسخ عقد لكان آثما تاركا لحكم الله تعالى، لأنه إنما كلف الظاهر ولم يكلف علم الباطن المغيب عند الله تعالى. وإذا مضى الحكم بالعقد صار ذلك كعقد مبتدأ بينهما، وكذلك إذا حكم بالفسخ صار كفسخ فيما بينهما، وإنما نفذ العقد والفسخ إذا تراضى المتعاقدان بحكم الله عز وجل بذلك، وكذلك حكم الحاكم.
فإن قيل فلو حكم بشهادة عبيد لم ينفذ حكمه إذا تبين مع كونه مأمورا بإمضاء الحكم به. قيل له: إنما لم ينفذ حكمه من قبل أن الرق معنى يصح ثبوته من طريق الحكم، وكذلك الشرك والحد في القذف، فجاز فسخ حكم الحاكم به بعد وقوعه، ألا ترى أنه يصح قيام البينة به والخصومة فيه عند الحاكم؟ فلذلك جاز أن لا ينفذ حكم الحاكم بشهادة هؤلاء، لوجود ما ذكرنا من المعاني التي يصح إثباتها من طريق الحكم.
وأما الفسق وجرح الشهادة من قبل أنهم شهود زور، فليس هو معنى يصح إثباته من طريق الحكم ولا تقبل فيه الخصومة، فلم ينفسخ ما أمضاه الحاكم. فإن ألزمنا على العقد وفسخه الحكم بملك مطلق ولم نبح له أخذه لم يلزمنا ذلك، لأن الحاكم عندنا إنما يحكم له بالتسليم لا بالملك، لأنه لو حكم له بالملك لاحتيج إلى ذكر جهة الملك في شهادة الشهود، فلما اتفق الجميع على أنه تقبل شهادة الشهود من غير ذكر جهة الملك دل ذلك على أن المحكوم به هو التسليم، والحكم بالتسليم ليس بسبب لنقل الملك، فلذلك كان الشئ باقيا على ملك مالكه.
وقوله: (لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون) يدل على أن ذلك فيمن علم أنه أخذ ما ليس له، فأما من لم يعلم فجائز له أن يأخذه بحكم الحاكم له بالمال إذا قامت بينة، وهذا يدل على أن البينة إذا قامت بأن لأبيه الميت على هذا ألف درهم أو أن هذه الدار تركها الميت ميراثا، أنه جائز للوارث أن يدعي ذلك ويأخذه بحكم الحاكم له به وإن لم يعلم صحة ذلك، إذ هو غير عالم بأنه مبطل فيما يأخذه، والله تعالى إنما ذم العالم به إذا أخذه بقوله: (لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون).
ومما يدل على نفاذ حكم الحاكم بما وصفنا من العقود وفسخها، اتفاق الجميع على أن ما اختلف فيه الفقهاء إذا حكم الحاكم بأحد وجوه الاختلاف نفذ حكمه وقطع ما أمضاه تسويغ الاجتهاد في رده، ووسع المحكوم له أخذه ولم يسع المحكوم عليه منعه.