ترى أن قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس) عقل من مفهوم خطابه أنها تكون مدة لإجارة جميع الناس ومحلا لجميع ديونهم، وإن كان واحد منهم لا يحتاج إلى أن يختص لنفسه ببعض الأهلة دون بعض؟ كذلك مفهوم الآية في العدة قد اقتضى مضي مدة واحدة لرجلين. وقد قوله تعالى: (قل هي مواقيت للناس) على أن العدة إذا كان ابتداؤها بالهلال وكانت بالشهور أنه إنما يجب استيفاؤها بالأهلة ثلاثة أشهر إن كانت ثلاثة، وإن كانت عدة الوفاة فأربعة أشهر بالأهلة وأن لا تعتبر عدد الأيام. وكذلك يدل على أن شهر الصوم معتبر بالهلال في ابتدائه وانتهائه، وأنه إنما يرجع إلى العدد عند فقد رؤية الهلال.
ويدل أيضا على أن من آلى من امرأته في أول الشهر أن مضي الأربعة الأشهر معتبر بالأهلة في إيقاع الطلاق دون اعتبار الثلاثين، وكذلك هذا في الإجارات والأيمان وآجال الديون، متى كان ابتداؤها بالهلال كان جميعها كذلك وسقط اعتبار عدد الثلاثين، وبذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين) بالرجوع إلى اعتبار العدد عند فقد الرؤية.
وأما قوله تعالى: (وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها) فإنه قد قيل فيه ما حدثنا عبد الله بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال:
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: (كان ناس من الأنصار إذا أهلوا بالعمرة لم يحل بينهم وبين السماء شئ ويتحرجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مهلا بالعمرة فيبدو له الحاجة بعدما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من ورائه ثم يقوم على حجرته فيأمر بحاجته فيخرج من بيته). وبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل من الحديبية بالعمرة فدخل حجرته، فدخل في أثره رجل من الأنصار من بني سلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:
(إني أحمس) قال الزهري: وكانت الحمس لا يبالون ذلك - فقال الأنصاري: وأنا أحمس - يقول - وأنا على دينك - فأنزل الله تعالى: (ليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها).
وروى ابن عباس والبراء وقتادة وعطاء: (أنه كان قوم من الجاهلية إذا أحرموا نقبوا في ظهور بيوتهم نقبا يدخلون منه ويخرجون، فنهوا عن التدين بذلك وأمروا أن يأتوا البيوت من أبوابها). وقيل فيه إنه مثل ضربه الله لهم بأن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به. وليس يمتنع أن يكون مراد الله تعالى به جميع ذلك، فيكون فيه بيان أن إتيان البيوت من ظهورها ليس بقربة إلى الله تعالى، ولا هو مما شرعه ولا ندب إليه، ويكون مع ذلك مثلا أرشدنا به إلى أن يأتي الأمور من مأتاها الذي أمر الله تعالى به