الاعتكاف والصوم قد جريا مجرى واحدا في اختصاصهما بحظر الجماع دون دواعيه من الطيب ودون اللباس.
فإن قيل: المحرم إذا قبل بشهوة لزمه دم وإن لم ينزل، فهلا أفسدت اعتكاف بمثله؟ قيل له: ليس الإحرام بأصل للاعتكاف، ألا ترى أنه ممنوع في الإحرام من الجماع ودواعيه من الطيب ومحظور عليه اللبس والصيد وإزالة التفث عن نفسه وليس يحظر ذلك عليه الاعتكاف؟ فثبت بذلك ان الإحرام ليس بأصل للاعتكاف، وأن الإحرام أكبر حرمة فيما يتعلق به من الأحكام. فلما كان المحرم ممنوعا من الاستمتاع وقد حصل له ذلك بالمباشرة وإن لم ينزل، وجب عليه دم لحصول الاستمتاع بما هو محظور عليه، فأشبه الاستمتاع بالطيب واللباس ف، لزمه من أجل ذلك دم.
فإن قيل: فلا يفسد اعتكافه وإن حدث عنها إنزال كما لا يفسد إحرامه، قيل له: لم نجعل ما وصفنا علة في فساد الإعتكاف حتى يلزمنا علتها، وإنما أفسدنا اعتكافه بالإنزال عن المباشرة كما أفسدنا صومه، وأما الإحرام فهو مخصوص في إفساده بالجماع في الفرج وسائر الأمور المحظورة في الإحرام لا يفسده، ألا ترى أن اللبس والطيب والصيد كل ذلك محظور في الإحرام ولا يفسده إذا وقع فيه؟ فالإحرام في باب البقاء مع وجود ما يحظره أكبر من الاعتكاف والصوم، ألا ترى أن بعض الأشياء التي يحظرها الصوم يفسده مثل الأكل والشرب وكذلك يفسد الاعتكاف؟ فلذلك قلنا إن المباشرة في الاعتكاف إذا حدث عنها إنزال أفسدته كما تفسد الصوم، ومتى لم يحدث عنها لم يكن لها تأثير في إفساد الاعتكاف كما لم تؤثر في إفساد الصوم.
واختلف فقهاء الأمصار في أشياء من أمر المعتكف، فقال أصحابنا: (لا يخرج المعتكف من المسجد في اعتكاف واجب ليلا ولا نهارا إلا لما لا بد منه من الغائط والبول وحضور الجمعة، ولا يخرج لعيادة مريض ولا لشهود جنازة) قالوا: (ولا بأس بأن يبيع ويشتري ويتحدث في المسجد ويتشاغل بما لا مأثم فيه ويتزوج وليس فيه صمت) وبه قال الشافعي: وقال ابن وهب عن مالك: (لا يعرض المعتكف لتجارة ولا غيرها بل يشتغل باعتكافه، ولا بأس أن يأمر بصنعته ومصلحة أهله وبيع ماله أو شيئا لا يشغله في نفسه، ولا بأس به إذا كان خفيفا)، قال مالك: (ولا يكون معتكفا حتى يجتنب ما يجتنب المعتكف، ولا بأس بنكاح المعتكف ما لم يكن الوقاع). وقال ابن القاسم عن مالك: (لا يقوم المعتكف إلى رجل يعزيه بمصيبة، ولا يشهد نكاحا يعقد في المسجد يقوم إليه في المسجد، ولكن لو غشيه ذلك في مجلسه لم أر به بأسا، ولا يقوم إلى الناكح فيهنيه، ولا يتشاغل في مجلس العلم ولا يكتب العلم في المجلس - وكرهه - ويشتري ويبيع إذا كان