عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، قالت: وإنه أراد مرة أن يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، قالت: فأمر ببنائه فضرب، فلما رأيت ذلك أمرت ببنائي فضرب، قالت: وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائه فضرب، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية فقال: (ما هذه! البر تردن؟) قالت: ثم أمر ببنائه فقوض وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضت، ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول، يعني من شوال. وهذا الخبر يدل على كراهية الاعتكاف للنساء في المسجد بقوله: (البر تردن؟) يعني أن هذا ليس من البر. ويدل على كراهية ذلك منهن أنه لم يعتكف في ذلك الشهر ونقض بناءه حتى نقضن أبنيتهن، ولو ساغ لهن الاعتكاف عنده لما ترك الاعتكاف بعد العزيمة ولما جوز لهن تركه وهو قربة إلى الله تعالى، وفي هذا دلالة على أنه قد كره اعتكاف النساء في المساجد.
فإن قيل: قد روى سفيان بن عيينة هذا الحديث عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة وقالت فيه: فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف فأذن لي، ثم استأذنته زينب فأذن لها، فلما صلى الفجر رأى في المسجد أربعة أبنية فقال: (ما هذا؟) فقالوا: لزينب وحفصة وعائشة، فقال: (البر تردن؟) فلم يعتكف. فأخبرت في هذا الحديث بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل له: ليس فيه أنه أذن لهن في الاعتكاف في المسجد، ويحتمل أن يكون الإذن انصرف إلى اعتكافهن في بيوتهن، ويدل عليه أنه لما رأى أبنيتهن في المسجد ترك الاعتكاف حتى تركن أيضا، وهذا يدل على أن الإذن بديا لم يكن إذنا لهن في الاعتكاف في المسجد. وأيضا فلو صح أن الإذن بديا انصرف إلى فعله في المسجد لكانت الكراهة دالة على نسخه وكان الآخر من أمره أولى مما تقدم.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون ذلك نسخا للإذن لأن النسخ عندكم لا يجوز قبل التمكن من الفعل. قيل له: قد كن مكن من الفعل لأدنى الاعتكاف، لأنه من حين طلوع الفجر من ذلك اليوم أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنكر فعلهن ذلك فقد حصل التمكين من الاعتكاف، فلذلك جاز ورود النسخ بعده.
وأما قول الشافعي فيمن لا جمعة عليه (إن له أن يعتكف حيث شاء) فلا معنى له، لأنه ليس للاعتكاف تعلق بالجمعة. وقد وافقنا الشافعي على جواز الاعتكاف في سائر المساجد فيمن عليه جمعة ومن ليست عليه لا يختلفان في موضع الاعتكاف، وإنما كره ذلك للمرأة في المسجد لأنها تصير لابثة مع الرجال في المسجد، وذلك مكروه لها سواء كانت معتكفة أو غير معتكفة، فأما من سواها فلا يختلف الحكم فيه لقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) فلم يخصص من عليه جمعة من غيرهم، فلا يختلف في