التأويل مع صحة السند واتساق المتن، لكانت الأخبار الموجبة للقضاء أولى من وجوه:
أحدها أنه متى ورد خبران أحدهما مبيح والآخر حاظر كان خبر الحظر أولى بالاستعمال، وخبرنا حاظر لترك القضاء، وخبرهم مبيح، فكان خبرنا أولى من هذا الوجه. ومن جهة أخرى أن الخبر النافي للقضاء وارد على الأصل، والخبر الموجب له ناقل عنه، والخبر الناقل أولى لأنه في المعنى وارد بعده كأنه قد علم تاريخه. ومن جهة أخرى، وهو أن ترك الواجب يستحق به العقاب وفعل المباح لا يستحق به العقاب، فكان استعمال خبر الوجوب أولى من خبر النفي.
ومما يعارض خبر أم هانئ في إباحة الإفطار، ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا أبو خالد عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا دعي أحدكم فليجب، فإن كان مفطرا فليطعم وإن كان صائما فليصل). قال أبو داود: رواه حفص بن غياث أيضا. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فليقل إني صائم) فهذان خبران يحضران على الصائم الإفطار من غير عذر، ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين الصائم تطوعا أو من فرض، ألا ترى أنه قال في الخبر الأول: (وإن كان صائما فليصل) والصلاة تنافي الإفطار؟ وفرق أيضا بين المفطر والصائم، فلو جاز للصائم الإفطار لقال:
فليأكل.
فإن قيل: إنما أراد بالصلاة الدعاء، والدعاء لا ينافي الأكل. قيل له: بل هو على الصلاة المعهودة عند الإطلاق، وهي التي بركوع وسجود، وصرفه إلى الدعاء غير جائز إلا بدلالة، فلو كان المراد الدعاء لكانت دلالته قائمة على أنه لا يفطر حين فرق بين المفطر والصائم بما ذكرنا، وقوله عليه السلام في الحديث: (فليقل إني صائم) يدل على أن الصوم يمنعه من الأكل، وقد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل إجابة الدعوة من حق المسلم كالسلام وعيادة المريض وشهود الجنازة، فلما منعه الإجابة وقال: (فليقل إني صائم) دل ذلك على حظر الإفطار في سائر الصيام من غير عذر.
فإن قيل: قد روي عن أبي الدرداء وجابر (أنهما كانا لا يريان بالإفطار في صيام التطوع بأسا) وأن عمر بن الخطاب دخل المسجد فصلى ركعة ثم انصرف. فتبعه رجل فقال: يا أمير المؤمنين صليت ركعة واحدة! فقال: (هو التطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص). قيل له: قد روينا عن ابن عباس وابن عمر إيجاب القضاء على من أفطر في صيام التطوع، وأما ما روي عن أبي الدرداء وجابر فليس فيه نفي القضاء وإنما فيه إباحة