أحد حالين: إما أن يكون ممن أمكنه استبانة طلوع الفجر والوصول إلى علمه من جهة اليقين بأن يكون عارفا به وليس بينه وبينه حائل، فإن كان كذلك ثم لم يستبن فإن هذا لا يكون إلا من تفريطه في تأمله وترك مراعاته، ومن كانت هذه حاله فغير جائز له الإقدام على الأكل، فإذا أكل فقد فعل ما لم يكن له أن يفعله، إذ قد كان في وسعه وإمكانه الوصول إلى اليقين والاستبانة، ولم ففرط فيه ولم يفعله، وتفريطه غير مسقط عنه فرض الصوم. وإن كان هذا الأكل ممن لا يعرف الفجر بصفته أو بينه وبينه حائل أو قمر أو ضعف بصر أو نحو ذلك، فهذا أيضا ممن لا يجوز له العمل على الظن، بل عليه أن يصير إلى اليقين ولا يأكل وهو شاك. وإذا كان ذلك على ما وصفنا لم يسقط عنه القضاء بتركه الاحتياط للصوم، وكذلك من أكل على ظن منه بغيوبة بين الشمس في يوم غيم، فهو بهذه المنزلة بمقتضى ظاهر قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل).
فإن قيل: لم يكلف تبين الفجر عند الله تعالى وإنما كلف ما عنده. قيل له: إذا أمكنه الوصول إلى معرفة طلوع الفجر الذي هو عند الله فعليه مراعاته، فمتى لم يكن هناك حائل استحال أن لا يعلمه، ومع ذلك فإنه إن غفل أبيح له الأكل في حال غفلته، فإن إباحة الأكل غير مسقطة للقضاء كالمريض والمسافر وهما أصل في ذلك لأنهما معذوران، والذي اشتبه عليه طلوع الفجر أو ظنه قد طلع معذور في الأكل، والعذر لا يسقط القضاء بدلالة ما وصفنا. ويدل عليه اتفاق الجميع أنه لو غم عليهم الهلال في أول ليلة من رمضان فأفطروا ثم علموا بعد ذلك أنه كان من رمضان كان عليهم القضاء، فكذلك من وصفنا أمره، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بشهر رمضان حتى مضى ثم علم به كان عليه القضاء، ولم يكن مكلفا في حال الإفطار إلا علمه، ثم لم يكن جهله بالوقت مسقطا للقضاء، فكذلك من خفي عليه طلوع الفجر وغروب الشمس.
فإن قيل: هلا كان بمنزلة الناسي في سقوط القضاء لأنه لم يعلم في حال الأكل بوجوب الصوم عليه؟ قيل له: هذا اعتلال فاسد لوجوده فيمن غم عليه هلال رمضان مع إيجاب الجميع عليه القضاء متى علم أنه من رمضان، وكذلك الأسير في دار الحرب إذا لم يعلم بالشهر حتى مضى عليه القضاء عند الجميع من جهله بوجوب الصوم عليه.
وقال أصحابنا في الآكل ناسيا: (القياس أن يجب القضاء عليه) ولكنهم تركوا القياس للأثر، ولو كان ظاهر الآية ينفي صحة صوم الناسي لأنه لم يتم صومه والله سبحانه قال: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) والصوم هو الإمساك ولم يوجد منه ذلك، ألا ترى أنه لو نسي الصوم رأسا أنه لا خلاف أن عليه القضاء ولم يكن نسيانه مسقطا القضاء عنه؟