عذر كسائر ما أوجبه الله عليه من صيام أو صلاة أو غيرهما كالنذور. ونظير هذه الآية في إيجاب القرب فالدخول فيها قوله تعالى: (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) [الحديد: 27] والابتداع قد يكون بالفعل وقد يكون بالقول. ثم ذم تاركي رعايتها بعد الابتداع، فدل ذلك على أن من يبتدع قربة بالدخول فيها أو بإيجابها بالقول أن عليه إتمامها، لأنه متى قطعها قبل إتمامها فلم يرعها حق رعايتها - والذم لا يستحق إلا بترك الواجبات - فدل ذلك على أن لزومها بالدخول كهو بالنذر والإيجاب بالقول.
ويحتج في مثله أيضا بقوله: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا) [النحل: 92] جعله الله مثلا لمن عهد لله عهدا أو حلف بالله ثم لم يف به ونقضه، هو عموم في كل من دخل في قربة، فيكون منهيا عن نقضها قبل إتمامها لأنه متى نقضها فقد أفسد ما مضى منها بعد تضمن تصحيحها بالدخول فيها، ويصير بمنزلة ناقضة غزلها بعد فتلها بقواها. وهذا يوجب أن كل من ابتدأ في حق الله وإن كان متطوعا بديا فعليه إتمامه والوفاء به، لئلا يكون بمنزلة ناقضة غزلها.
فإن قيل: إنما نزلت هذه الآية فيمن نقض العهد والأيمان بعد توكيدها، لأنه قال تعالى:
(وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) [النحل: 91] ثم عطف عليه قوله: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة) [النحل: 92]. قيل له: نزولها على سبب لا يمنع اعتبار عموم لفظها، وقد بينا ذلك في مواضع. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) [محمد: 33] وقد علمنا أن أقل ما يصح في الفرض من الصوم يوم كامل، وفي الصلاة ركعتان، ولا تصح النوافل وتكون قربة إلا حسب موضوعها في الفروض، بدلالة أنه يحتاج إلى استيفاء شروطها، ألا ترى أن صوم النفل مثل صوم الفرض في لزوم الإمساك عن الجماع والأكل والشرب؟ وكذلك صلاة التطوع تحتاج من القراءة والطهارة والستر إلى مثل ما شرط في الفروض. ولما لم يكن في أصل الفرض ركعة واحدة ولا صوم بعض يوم، وجب أن يكون كذلك حكم النفل، فمتى دخل في شئ منه ثم أفسده قبل إتمامه فقد أبطله وأبطل ثواب ما فعله منه، وقوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) [محمد: 33] يمنع الخروج منه قبل إتمامه لنهي الله تعالى إياه عن إبطاله، وإذا لزمه إتمامه فقد وجب عليه قضاؤه إذا خرج منه قبل إتمامه معذورا كان في خروجه أو غير معذور.
ويدل عليه من جهة السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن البتيراء) وهو أن يوتر الرجل بركعة فاقتضى هذا اللفظ إيجاب إتمامها، وإذا وجب إتمامها فقد لزمته،