يجوز إثبات الحدود من طريق المقاييس، وإنما طريق إثباتها التوقيف أو الإتفاق. وما ذكر الله تعالى من أمر المنافقين في هذه الآية وإقرارهم من غير أمر لنا بقتالهم أصل فيما ذكرنا ولأن الحدود والعقوبات التي أوجبها من فعل الإمام ومن قام بأمور الشريعة جارية مجرى ما يفعله هو تعالى من الآلام على وجه العقوبة. فلما جاز أن لا يعاقب المنافق في الدنيا بالآلام من جهة الأمراض والأسقام والفقر والفاقة، بل يفعل به أضداد ذلك، ويكون عقابه المستحق بكفره ونفاقه مؤجلا إلى الآخرة، جاز أن لا يتعبدنا بقتله في الدنيا وتعجيل عقوبة كفره ونفاقه.
وقد غبر النبي عليه السلام بمكة بعد ما بعثه الله تعالى ثلاث عشر سنة يدعو المشركين إلى الله وتصديق رسله غير متعبد بقتالهم، بل كان مأمورا بدعائهم في ذلك بلين القول وألطفه فقال تعالى: (أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) [النحل: 125] وقال: (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما) [الفرقان: 63] وقال: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) [فصلت: 34 و 35] وفي نظائر ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالدعاء إلى الدين بأحسن الوجوه، ثم فرض القتال بعد الهجرة لعلمه تعالى بالمصلحة من كلا الحالين بما تعبد به، فجاز من أصل ما وصفنا أن يكون الأمر بالقتل والقتال خاصا في بعض الكفار وهم المجاهرون بالكفر دون ما يظهر الإيمان ويسر الكفر، وإن كان المنافق أعظم جرما من غيره.
وقوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشا) يعني - والله أعلم - قرارا، كقوله:
(الذي جعل لكم الأرض قرارا) [غافر: 64] وقوله: (ألم نجعل الأرض مهادا) [النبأ:
6] فسماها فراشا، والإطلاق لا يتناولها، وإنما يسمى به مقيدا، كقوله تعالى: (والجبال أوتادا) [النبأ: 7] وإطلاق اسم الأوتاد لا يفيد الجبال، وقوله: (وجعل الشمس سراجا) [النوح: 16]. ولذلك قال الفقهاء: إن من حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لا يحنث، وكذلك لو حلف لا يقعد في سراج فقعد في الشمس، لأن الأيمان محمولة على المعتاد المتعارف من الأسماء، وليس في العادة إطلاق هذا الاسم للأرض والشمس. وهذا كما سمى الله تعالى الجاحد له كافرا، وسمى الزراع كافرا، والشاك السلاح كافرا، ولا يتناولهما هذا الاسم في الإطلاق، وإنما يتناول الكافر بالله تعالى.
ونظائر ذلك من الأسماء المطلقة والمقيدة كثيرة، ويجب اعتبارها في كثير من الأحكام، فما كان في العادة مطلقا فهم على إطلاقه، والمقيد فيها على تقييده، ولا يتجاوز به موضعه.