بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون) أن ضوء النار مثل لايمانهم الذي كان منهم عنده على صحة، وأن ذهاب نورهم مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة، لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق، وأني يكون خداع ونفاق ممن لم يبدلك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد ومن الخداع برئ، فإن كان القوم لم تكن لهم إلا حالتان: حال إيمان ظاهر، وحال كفر ظاهر، فقد سقط عن القوم اسم النفاق، لأنهم في حال إيمانهم الصحيح كانوا مؤمنين، وفي حال كفرهم الصحيح كانوا كافرين. ولا حالة هناك ثالثة كانوا بها منافقين. وفي وصف الله جل ثناؤه إياهم بصفة النفاق ما ينبئ عن أن القول غير القول الذي زعمه من زعم أن القوم كانوا مؤمنين ثم ارتدوا إلى الكفر فأقاموا عليه، إلا أن يكون قائل ذلك أراد أنهم انتقلوا من إيمانهم الذي كانوا عليه إلى الكفر الذي هو نفاق، وذلك قول إن قاله لم تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أو ببعض المعاني الموجبة صحته. فأما في ظاهر الكتاب، فلا دلالة على صحته لاحتماله من التأويل ما هو أولى به منه. فإذا كان الامر على ما وصفنا في ذلك، فأولى تأويلات الآية بالآية مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا بألسنتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الاقرار به، وقولهم له وللمؤمنين:
آمنا بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، حتى حكم لهم بذلك في عاجل الدنيا بحكم المسلمين في حقن الدماء والأموال والأمن على الذرية من السباء، وفي المناكحة والموارثة، كمثل استضاءة الموقد النار بالنار، حتى إذا ارتفق بضيائها وأبصر ما حوله مستضيئا بنوره من الظلمة، خمدت النار وانطفأت، فذهب نوره، وعاد المستضئ به في ظلمة وحيرة. وذلك أن المنافق لم يزيل مستضيئا بضوء القول الذي دافع عنه في حياته القتل والسباء مع استبطانه ما كان مستوجبا به القتل وسلب المال لو أظهره بلسانه، تخيل إليه بذلك نفسه أنه بالله ورسوله والمؤمنين مستهزئ مخادع، حتى سولت له نفسه، إذ ورد على ربه في الآخرة، أنه ناج منه بمثل الذي نجا به في الدنيا من الكذب والنفاق. أو ما تسم الله جل ثناؤه يقول إذ نعتهم ثم أخبرهم عند ورودهم عليه: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلقون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون) (1) ظنا من القوم أن نجاتهم من عذاب الله في الآخرة في مثل الذي كان به نجاتهم من القتل والسباء وسلب المال في الدنيا