قد دللنا فيما مضى من كتابنا هذا على أن الكافر في كلام العرب هو الساتر شيئا بغطاء، وأن الله جل ثناؤه إنما سمى الكافر كافرا لجحوده آلاءه عنده، وتغطيته نعماءه قبله فمعنى قوله إذا (أعدت للكافرين): أعدت النار للجاحدين أن الله ربهم المتوحد بخلقهم وخلق الذين من قبلهم، الذي جعل لهم الأرض فراشا، والسماء بناء، وأنزل من السماء ماء، فأخرج به من الثمرات رزقا لهم، المشركين معه في عبادته الأنداد والآلهة، وهو المتفرد لهم بالانشاء والمتوحد بالأقوات والأرزاق. كما:
424 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو عن سعيد، عن ابن عباس: (أعدت للكافرين) أي لمن كان على على مثل ما أنتم عليه من الكفر. القول في تأويل قوله تعالى:
(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ولهم فيها أزوج مطهرة وهم فيها خلدون (25)).
أما قوله تعالى: (وبشر) فإنه يعني: أخبرهم. والبشارة أصلها الخبر بما يسر المخبر به، إذا كان سابقا في كل مخبر سواه. وهذا أمر من الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بإبلاغ بشارته خلقه الذين آمنوا به وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبماء جاء به من عند ربه، وصدقوا إيمانه ذلك وإقرارهم بأعمالهم الصالحة، فقال له: يا محمد ببشر من صدقك أنك رسولي وأن ما جئت به من الهدى والنور فمن عندي، وحقق تصديقه ذلك قولا بأداء الصالح من الأعمال التي افترضتها عليه وأوجبتها في كتابي على لسانك عليه، أن له جنات تجري من تحتها الأنهار خاصة، دون من كذب بك وأنكر ما جئت به من الهدى من عندي وعاندك، ودون من أظهر تصديقك وأقر بأن ما جئته به فمن عندي قولا، وجحده اعتقادا ولم يحققه عملا. فإن لأولئك النار التي وقودها الناس والحجارة معدة عندي. والجنات جمع جنة، والجنة:
البستان. وإنما عنى جل ذكر بذكر الجنة ما في الجنة من أشجارها وثمارها وغروسها دون أرضها، فلذلك قال عز ذكره: (تجري من تحتها الأنهار) لأنه معلوم أنه إنما أراد جل ثناؤه الخبر عن ماء أنهارها أنه جار تحت أشجارها وغروسها وثمارها، لا أنه جار تحت أرضها، لان الماء إذا كان جاريا تحت الأرض، فلاحظ فيها لعيون من فوقها إلا بكشف الساتر بينها وبينه.