يبدونه له بأفواههم خلاف ما في ضمائر قلوبهم، وضد ما في عزائم نفوسهم. وفي هذه الآية دلالة واضحة على بطول ما زعمته الجهمية من أن الايمان هو التصديق بالقول دون سائر المعاني غيره. وقد أخبر الله جل ثناؤه عن الذين ذكرهم في كتابه من أهل النفاق أنهم قالوا بألسنتهم: آمنا بالله وباليوم الآخر ثم نفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، إذ كان اعتقادهم غير مصدق قيلهم ذلك. وقوله: وما هم بمؤمنين يعني بمصدقين فيما يزعمون أنهم به مصدقون. القول في تأويل قوله تعالى.
* (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون) * قال أبو جعفر: وخداع المنافق ربه والمؤمنين إظهاره بلسانه من القول والتصديق خلاف الذي في قلبه من الشك والتكذيب ليدرأ عن نفسه بما أظهر بلسانه حكم الله عز وجل اللازم من كان بمثل حاله من التكذيب لو لم يظهر بلسانه ما أظهر من التصديق والاقرار من القتل والسباء، فذلك خداعه ربه وأهل الايمان بالله.
فإن قال قائل: وكيف يكون المنافق لله وللمؤمنين مخادعا وهو لا يظهر بلسانه خلاف ما هو له معتقد إلا تقية؟ قيل: لا تمتنع العرب أن تسمي من أعطى بلسانه غير الذي هو في ضميره تقية لينجو مما هو له خائف، فنجا بذلك مما خافه مخادعا لمن تخلص منه بالذي أظهر له من التقية، فكذلك المنافق سمي مخادعا لله وللمؤمنين باظهاره ما أظهر بلسانه تقية مما تخلص به من القتل والسباء والعذاب العاجل، وهو لغير ما أظهر مستبطن، وذلك من فعله وإن كان خداعا للمؤمنين في عاجل الدنيا فهو لنفسه بذلك من فعله خادع لأنه يظهر لها بفعله ذلك بها أنه يعطيها أمنيتها ويسقيها كأس سرورها، وهو موردها به حياض عطبها، ومجرعها به كأس عذابها، ومذيقها من غضب الله وأليم عقابه ما لا قبل لها به. فذلك خديعته نفسه ظنا منه مع إساءته إليها في أمر معادها أنه إليها محسن، كما قال جل ثناؤه:
وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون إعلاما منه عباده المؤمنين أن المنافقين بإساءتهم إلى أنفسهم في إسخاطهم ربهم بكفرهم وشكهم وتكذيبهم غير شاعرين ولا دارين، ولكنهم على عمياء من أمرهم مقيمون.