وقد كان بعض أهل النحو من أهل البصرة يقول: لا تكون المفاعلة إلا من شيئين، ولكنه إنما قيل: يخادعون الله عند أنفسهم بظنهم أن لا يعاقبوا، فقد علموا خلاف ذلك في أنفسهم بحجة الله تبارك اسمه الواقعة على خلقه بمعرفته وما يخدعون إلا أنفسهم. قال: وقد قال بعضهم: وما يخدعون يقول: يخدعون أنفسهم بالتخلية بها. وقد تكون المفاعلة من واحد في أشياء كثيرة.
القول في تأويل قوله تعالى: وما يخدعون إلا أنفسهم.
إن قال لنا قائل: أو ليس المنافقون قد خدعوا المؤمنين بما أظهروا بألسنتهم من قيل الحق عن أنفسهم وأموالهم وذراريهم حتى سلمت لهم دنياهم وإن كانوا قد كانوا مخدوعين في أمر آخرتهم؟ قيل: خطأ أن يقال إنهم خدعوا المؤمنين لأنا إذا قلنا ذلك أوجبنا لهم حقيقة خدعة جاءت لهم على المؤمنين، كما أنا لو قلنا: قتل فلان فلانا، أوجبنا له حقيقة قتل كان منه لفلان. ولكنا نقول: خادع المنافقون ربهم والمؤمنين، ولم يخدعوهم بل خدعوا أنفسهم، كما قال جل ثناؤه، دون غيرها، نظير ما تقول في رجل قاتل آخر فقتل نفسه ولم يقتل صاحبه: قاتل فلان فلانا ولم يقتل إلا نفسه، فتوجب له مقاتلة صاحبه، وتنفي عنه قتله صاحبه، وتوجب له قتل نفسه. فكذلك تقول: خادع المنافق ربه والمؤمنين، ولم يخدع إلا نفسه، فتثبت منه مخادعة ربه والمؤمنين، وتنفي عنه أن يكون خدع غير نفسه لان الخادع هو الذي قد صحت له الخديعة ووقع منه فعلها. فالمنافقون لم يخدعوا غير أنفسهم، لان ما كان لهم من مال وأهل فلم يكن المسلمون ملكوه عليهم في حال خداعهم إياهم عنه بنفاقهم ولا قبلها فيستنقذوه بخداعهم منهم، وإنما دافعوا عنه بكذبهم وإظهارهم بألسنتهم غير الذي في ضمائرهم، ويحكم الله لهم في أموالهم وأنفسهم وذراريهم في ظاهر أمورهم بحكم ما انتسبوا إليه من الملة، والله بما يخفون من أمورهم عالم. وإنما الخادع من ختل غيره عن شيئه، والمخدوع غير عالم بموضع خديعة خادعه. فأما والمخادع عارف بخداع صاحبه إياه، وغير لاحقه من خداعه إياه مكروه، بل إنما يتجافى للظان به أنه له مخادع استدراجا ليبلغ غاية يتكامل له عليه الحجة للعقوبة التي هو بها موقع عند بلوغه إياها. والمستدرج غير عالم بحال نفسه عند مستدرجه، ولا عارف