فلا تعارض بين الآيتين، بل تكون إحداهما مفسرة للأخرى، فلا نسخ.
ولكن الذي يبدو لنا هو أن المستفاد من قوله " حق تقاته " أمر أعظم وأشد مما يستفاد من قوله تعالى " ما استطعتم "، وكأن الآية الأولى تدل على أنه يجب تحصيل ما أراده الله تعالى وأحبه، وترك ما نهى عنه وأبغضه بأي وجه أمكن وبأي طريق، فلابد من أن يتحرز المكلف من النسيان والغفلة، ولو بالاحتياطات الشاقة التي تمنع ذلك، ومعلوم أن هذا أمر صعب جدا. وأما الآية " ما استطعتم " فهي تخفف ذلك، وتقول: إننا الآن نطلب منكم قدر وسعكم، أي بمقدار الوسع العرفي لا العقلي، فحينئذ يكون بين الآيتين تعارض، فلابد من القول بالنسخ.
وهذا المعنى هو الذي يظهر من كل مورد وقع فيه نظير هذا التعبير، كقوله تعالى * (ما قدروا الله حق قدره) * (1)، وقوله سبحانه * (فما رعوها حق رعايتها) * (2).
وكقول الإمام (عليه السلام) لمعاوية بن وهب: يا معاوية، ما أقبح بالرجل يأتي عليه سبعون سنة أو ثمانون سنة يعيش في ملك الله ويأكل نعمته ثم لا يعرف الله حق معرفته (3).
ومن المعلوم أن معاوية بن وهب - مع جلالته وعظم شأنه - لم يكن يفقد المعرفة المتعارفة بالله عز وجل، وإنما استحق العتاب منه (عليه السلام) بسبب عدم وصوله إلى حق المعرفة التي ترتفع عن مستوى المعرفة المتعارفة.
إذا، فيستفاد من كلمة " حق تقاته " درجة من التقوى تزيد على الدرجة التي تستفاد من قوله " ما استطعتم ". فتكون هذه ناسخة لتلك.
هذا بالإضافة إلى أنه قد روي عدد من الروايات الدالة على النسخ في هذه الآية عن أئمة الهدى (عليهم السلام)، ونحن نذكر على سبيل المثال: