أبقي على ما ألقي. وعلى هذا فيكون (أم) هذه هي متصلة (قل) يا محمد لهم (فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) أي: إن كان هذا مفترى على الله كما زعمتم، فأتوا أنتم بعشر سور مثله في النظم والفصاحة، مفتريات على زعمكم، فإن القرآن نزل بلغتكم، وقد نشأت أنا بين أظهركم، فإن لم يمكنكم ذلك فاعلموا أنه من عند الله تعالى. وهذا صريح في التحدي، وفيه دلالة على جهة إعجاز القرآن، وأنها هي البلاغة والفصاحة في هذا النظم المخوص، لأنه لو كان جهة الإعجاز غير ذلك، لما قنع في المعارضة بالافتراء والاختلاق، لأن البلاغة ثلاث طبقات: فأعلى طبقاتها معجز، وأدناها وأوسطها ممكن. فالتحدي في الآية إنما وقع في الطبقة العليا منها، ولو كان وجه الإعجاز الصرفة، لكان الركيك من الكلام أبلغ في باب الإعجاز.
والمثل المذكور في الآية لا يجوز أن يكون المراد به مثله في الجنس، لأن مثله في الجنس يكون حكايته، فلا يقع بها التحدي، وإنما يرجع ذلك إلى ما هو متعارف بين العرب في تحدي بعضهم بعضا، كما اشتهر من مناقضات امرئ القيس، وعلقمة، وعمرو بن كلثوم، والحرث بن حلزة، وجرير، والفرزدق، وغيرهم.
وقوله: (وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) معناه: ادعوهم ليعينوكم على معارضة القرآن، إن كنتم صادقين في قولكم، إني افتريته، ويريد بقوله (من استطعتم): من خالف نبينا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم من جميع الأمم، وهذا غاية ما يمكن في التحدي والمحاجة، وفيه الدلالة الواضحة على إعجاز القرآن، لأنه إذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحداهم به، وأوعدهم بالقتل والأسر بعد أن عاب دينهم وآلهتهم، وثبت أنهم كانوا أحرص الناس على إبطال أمره، حتى بذلوا مهجهم وأموالهم في ذلك، فإذا قيل لهم افتروا أنتم مثل هذا القرآن، وادحضوا حجته، وذلك أيسر وأهون عليكم من كل ما تكلفتموه، فعدلوا عن ذلك، وصاروا إلى الحرب، والقتل، وتكلف الأمور الشاقة، فذلك من أدل الدلائل على عجزهم، إذ لو قدروا على معارضته مع سهولة ذلك عليهم لفعلوه، لأن العاقل لا يعدل عن الأمر السهل إلى الصعب الشاق، مع حصول الغرض بكل واحد منهما، فكيف ولو بلغوا غاية أمانيهم في الأمر الشاق، وهو قتله صلى الله عليه وآله وسلم، لكان لا يحصل غرضهم من إبطال أمره، فإن المحق قد يقتل.
فإن قيل: لم ذكر التحدي مرة بعشر سور، ومرة بسورة، ومرة بحديث مثله؟