الكريمة. والواجب الإذعان بظاهر ما ورد من أمور الآخرة. نعم يمكن أن يقال كما مر: إن الأمور الأخروية التي حصل بها الوعد والوعيد كلها أمور محققة ثابتة على ما أخبر به، إلا أنها صور للأخلاق، والصفات المكتسبة في هذه النشأة قد ظهرت بتلك الصور في دار العقبى بحسب المرتبة، إذ ظهورات الأشياء مختلفة بحسب اختلاف المراتب والنشآت، فمواد ما يؤذي ويريح من الصور في موطن المعاد إنما هو الأخلاق والنيات المكتسبة في هذه النشأة.
وهذا المذهب مما استقر عليه آراء أساطين الحكمة والعرفان، وذكرنا الظواهر الدالة عليه من الآيات والأخبار، وأشرنا إلى حقيقة الحال فيه. وعلى هذا فالصراط المستقيم الممدود كالجسر على الجحيم صورة لتوسط الأخلاق، والجحيم صورة لأطرافها، فمن ثبت قدمه على الوسط هنا لم يزل عن الصراط هناك ووصل إلى الجنة التي وعدها الله المتقين، ومن مال إلى الأطراف هنا سقط هناك في جهنم التي أحاطت بالكافرين.
ثم الوسط إما حقيقي وهو ما تكون نسبته إلى الطرفين على السواء كالأربعة بالنسبة إلى الاثنين والستة، وهذا كالمعتدل الحقيقي الذي أنكر الأطباء وجوده، أو إضافي وهو أقرب ما يمكن تحققه للنوع أو الشخص إلى الحقيقي، ويتحقق به كمالهما " اللائق بحالهما " (7) وإن لم يصل إليه، فالتسمية بالوسط إنما هو بالنسبة إلى الأطراف التي هي أبعد من الحقيقي بالإضافة إليه. وهذا كالاعتدالات النوعية والشخصية التي أثبتها الأطباء، فإن المراد منها الاعتدالات التي يمكن تحققها للأنواع والأشخاص، وهو القدر الذي يليق بكل نوع أو شخص أن يكون عليه، وإن لم يكن اعتدالا حقيقيا بمعنى تساوي الأجزاء البسيطة العنصرية وتكافؤها في القوة والأقربية إلى الحقيقي بالنسبة إلى سائر الأطراف سمي إضافيا.
ثم الوسط المعتبر هنا هو الإضافي لتعذر وجدان الحقيقي والثبات عليه، ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الإضافي فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو