تكملة مجاري التفكر في المخلوقات الموجودات بأسرها مجاري التفكر ومطارح النظر، إذ كل ما في الوجود سوى واجب فهو ممن رشحات وجوده وآثار فيضه وجوده، وكل موجود ومخلوق من جوهر أو عرض مجرد أو مادي، فلكي أو عنصري، بسيط أو مركب، فعل الله وصنعه، وما من ذرة من ذرات العالم إلا وفيها ضروب من عجائب حكمته وغرائب عظمته، بحيث لو تشمر عقلاء الأقطار وحكماء الأمصار مدى الأعصار لاستنباطها، انقضت أعمارهم دون الوقوف على عشر عشيرها وقليل من كثيرها.
ثم إن الموجودات المخلوقة منقسمة إلى ما لا يعرف أصله فلا يمكننا التفكر فيه، وإلى ما يعرف أصله ومجمله من دون معرفة تفاصيله فيمكننا التفكر في تفصيله لتزداد لنا معرفة وبصيرة مخالفه. وهو إلى ما لا يدرك بحس البصر ويسمى ب (الملكوت)، كالملائكة والجن والشياطين وعوالم العقول والنفوس المجردة، ولها أجناس وطبقات لا يحيط بها إلا موجدها، وإلى ما يدرك به، وله أجناس ثلاثة: عالم السماوات المشاهدة بكواكبها ونجومها ودورانها في طلوعها وغروبها، وعالم الأرض المحسوسة ببحارها وجبالها ووهادها وتلالها ومعادنها وأنهارها ونباتها وأشجارها وحيوانها وجمادها، وعالم الجو المدرك بسحبه وغيومه وأمطاره وثلوجه وشهبه وبروقه ورياحه ورعوده، وكل من هذه الأجناس الثلاثة ينقسم إلى أنواع، ويتشعب كل نوع إلى أقسام وأصناف غير متناهية، مختلفة في الصفات والهيئات، واللوازم والآثار والخواص، والمعاني الظاهرة والباطنة، وليس شئ منها إلا وموجده هو الله سبحانه، وفي وجوده وحركته وسكونه حكم ومصالح لا تحصى.
وكل ذلك مجاري التفكر والتدبر لتحصيل المعرفة والبصيرة بخالقها الحكيم وموجدها القيوم العليم، إذ كلها شواهد عدل وبينات صدق على وحدانيته وحكمته وكمال كبريائه وعظمته، فمن قدم قدم حقيقته، ودار عالم الوجود وفتح عين بصيرته، وشاهد مملكة ربه الودود، لظهر له في