قلبه أن لا يرى في نظر شهوده إلا هو، ويغيب عنه غيره، لقصر نظر بصيرته الباطنة على ما هو الحقيقة والواقع. ومما يكسر سورة استبعادك: إن المشغول بالسلطان والمستغرق في ملاحظة سطوته ربما غفل عن مشاهدة غيره وإن العاشق قد يستغرق في مشاهدة جمال معشوقه ويبهره حبه بحيث لا يرى غيره، مع تحقق الكثرة عنده، وإن الكواكب موجودة في النهار مع إنها لا ترى لمغلوبية أنوارها واضمحلالها في جنب نور الشمس، فإذا جاز أن يغلب نور الشمس على نور الكواكب ويقهرها بحيث يضمحل ويغيب عن بصر الظاهر، فأي استبعاد في أن يغلب نور الوجود الحقيقي القاهر على الموجودات الضعيفة الإمكانية ويقهرها، بحيث يغيب عن نظر العقل والبصيرة، ثم هذه المشاهدات التي لا يظهر فيها إلا الله الواحد الحق لا تدوم، بل هي كالبرق الخاطف والدوام فيها عزيز نادر.
فصل ابتناء التوكل على حصر المؤثر في الله تعالى إعلم: أنه لا يمكن التوكل على الله تعالى في الأمور حق التوكل إلا بالبلوغ إلى المرتبة الثالثة من التوحيد، وهي التي يرتبط بها التوكل دون غيرها من المراتب، إذ المرتبة الرابعة لا يتوقف ولا يبتني عليها التوكل، والأولى مجرد نفاق لا يفيد شيئا، والثانية - أعني مجرد التوحيد بالاعتقاد - لا يورث حال توكل كما ينبغي، فإنه موجود في عموم المسلمين مع عدم وجود التوكل كما ينبغي فيهم.
فالمناط في التوكل هو ثالث المراتب في التوحيد، وهو أن ينكشف للعبد بنور الحق أن لا فاعل إلا الله، وإن كل موجود: من خلق ورزق، وعطاء ومنع، وغنى وفقر، وصحة ومرض، وعز وذل، وحياة وموت..
إلى غير ذلك مما يطلق عليه اسم، فالمتفرد بإبداعه واختراعه هو الله تعالى لا شريك له فيه، وإذا انكشف له هذا لم ينظر إلى غيره، بل كان منه خوفه وإليه رجاؤه، وبه ثقته وعليه اتكاله، فإنه الفاعل بالانفراد دون غيره، وما سواه مسخرون لا استقلال لهم بتحريك ذرة في ملكوت السماوات والأرض وإذا انفتح له أبواب المعارف اتضح له هذا اتضاحا أتم من المشاهدة بالبصر، وإنما يصده الشيطان عن هذا التوحيد، ويوقع في قلبه شائبة الشرك بالالتفات