في وسعنا ولا يليق هنا، فإن التوحيد هو البحر الخضم الذي لا ساحل له.
وصل التوحيد في الفعل ضد الشرك (التوحيد)، وهو إما توحيد في أصل الذات بمعنى عدم تركيب خارجي وعقلي في ذاته تعالى وعينية وجوده وصفاته لذاته، ويلزمه كونه تعالى صرف الوجود وبحته، أو توحيد في وجوب وجوده بمعنى نفي الشرك في وجوب الوجود عنه (ولا بحث لنا هنا عن إثبات هذين القسمين لثبوتهما في الحكمة المتعالية)، أو توحيد في الفعل والتأثير والإيجاد، بمعنى أن لا فاعل ولا مؤثر إلا هو، وهو الذي نذكر هنا مراتبه وما يتعلق به، فنقول:
هذا التوحيد - على ما قيل - له أربع مراتب: قشر، وقشر القشر، ولب، ولب اللب كالجوز الذي له قشرتان وله لب، واللب دهن وهو لب اللب. (فالمرتبة الأولى) أن يقول الإنسان باللسان: لا إله إلا الله، وقلبه منكر وغافل عنه، كتوحيد المنافقين، وهذا توحيد بمجرد اللسان ولا فائدة فيه إلا حفظ صاحبه في الدنيا من السيف والسنان. (الثانية) أن يصدق بمعنى اللفظ قلبه، كما هو شأن عموم المسلمين، وهو اعتقاد العوام وصاحبه موحد، بمعنى أنه معتقد بقلبه خال عن التكذيب بما انعقد عليه قلبه. وهو عقد على القلب لا يوجب انشراحا وانفتاحا صفاء له. ولكنه يحفظ صاحبه عن العذاب في الآخرة إن مات عليه ولم يضعف بالمعاصي. (الثالثة) أن يشاهد ذلك بطريق الكشف بواسطة نور الحق، وذلك بأن يرى أشياء كثيرة ولكن يراها بكثرتها صادرة عن الواحد الحق، وهو مقام المقربين، وصاحبه موحد، بمعنى أنه لا يشاهد إلا فاعلا ومؤثرا واحدا، لأنه انكشف له الحق كما هو عليه. (الرابعة) ألا يرى في الوجود إلا واحدا، ويسميه أهل المعرفة الفناء في التوحيد، لأنه من حيث لا يرى إلا واحدا. فلا يرى نفسه أيضا، وإذا لم ير نفسه لكونه مستغرقا بالواحد كان فانيا عن نفسه في توحيده، بمعنى أنه فنى عن رؤية نفسه، وهو مشاهدة الصديقين، وصاحبه موحد بمعنى أنه لم يحضر في شهوده غير الواحد، فلا يرى الكل من حيث أنه كثير بل من حيث أنه واحد. وهذه هي الغابة القصوى في التوحيد.