موضوعا لمسألة، ويبحث عنه فيه بإثبات صفة له لأجل أنه أيضا من الموجودات كما إنه في العلم الأعلى الذي يبحث فيه عن الموجودات من حيث وجودها، يبحث عن نفس العلم لكونه من الموجودات، ويجعل موضوعا لمسألة من مسائله، ولا يلزم من هذا كون الشئ جزءا لنفسه. وأيضا نقول كما أن الحكمة العملية قسم من مطلق الحكمة لتعلق العمل بالنظر، فكذا المطلق قسم منها لتعلق النظر بالعمل، وحينئذ كما أن العدالة من الحكمة باعتبار فكذا الحكمة من العدالة باعتبار آخر، فتختلف الحيثية ولا يلزم محذور.
وقيل: في الجواب أن المراد من الحكمة التي هي إحدى الفضائل الأربع استعمال العقل على الوجه الأصلح، وحينئذ فلا يرد إشكال أصلا لعدم كون الحكمة بهذا المعنى عين المقسم لأنها جزء له. وفيه أن الحكمة بهذا المعنى هي العدالة على ما تقرر، مع أن العدالة أيضا إحدى الفضائل الأربع.
" تنبيه " قد صرح علماء الأخلاق بأن صاحب الفضائل الأربع لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلها إلى الغير، ولذا لا يسمى صاحب ملكة السخاء بدون البذل سخيا بل منفاقا، ولا صاحب ملكة الشجاعة بدون ظهور آثارها شجاعا بل غيورا، ولا صاحب ملكة الحكمة بدونها حكيما بل مستبصرا.
والظاهر أن المراد باستحقاق المدح هو حكم العقل بوجوب المدح، فإن من تعدى أثره يرجى نفعه، ويخاف ضره، فيحكم العقل بلزوم مدحه جلبا للنفع، أو دفعا للضرر، وأما من لا يرجى خيره وشره فلا يحكم العقل بوجوب مدحه وإن بلغ في الكمال ما بلغ.
فصل تحقيق الوسط والأطراف لا ريب. في أنه بإزاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها، ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فأجناس الرذائل أيضا في بادئ النظر أربعة: الجهل، وهو ضد الحكمة، والجبن، وهو ضد الشجاعة، والشره وهو ضد العفة، والجور، وهو ضد العدالة. وعند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حدا معينا، والتجاوز عنه بالإفراط أو التفريط يؤدي إلى الرذيلة، فالفضائل بمنزلة الأوساط، والرذائل بمثابة الأطراف، والوسط واحد معين لا يقبل التعدد،