المعاصي ويجتهد في كسب وظائف الطاعات ليتخلص عنه، واهتمام أكابر الدين من الأنبياء والمرسلين والحكماء والصديقين في وظائف الطاعات وصبرهم على مشاق العبادات ومجاهدتهم مع جنود الشياطين إنما هو لدفع هذا الخوف عن نفوسهم، فهو في الحقيقة ناشئ منك ومن سوء اختيارك، فبادر إلى تقليله بالمواظبة على صوالح الأعمال وفضائل الأفعال. وقد يأتي أن هذا الخوف هو سوط الله الباعث على العمل، ومعه لو كان مفرطا فليعالج بأسباب الرجاء، وبدونه فلا بد أن يكون حتى يبعثه عليه، على أنه مع عظم جرمه وقصور باعه عن تداركه فلا ينبغي أن ييأس من روح الله، فلعل واسع الرحمة السابقة على الغضب يدركه بسابقة من القضاء والقدر.
فصل الخوف المحمود وأقسامه ودرجاته وللنوع الثاني من الخوف أقسام: (الأول) أن يكون من الله سبحانه ومن عظمته وكبريائه، وهذا هو المسمى بالخشية والرهبة في عرف أرباب القلوب. (الثاني) من جناية العبد باقترافه المعاصي. (الثالث) أن يكون منهما جميعا. وكلما ازدادت المعرفة بجلال الله وعظمته وتعاليه وبعيوب نفسه وجناياته، ازداد الخوف، إذ إدراك القدرة القاهرة والعظمة الباهرة والقوة القوية والعزة الشديدة، يوجب الاضطراب والدهشة. ولا ريب في أن عظمة الله وقدرته وسائر صفاته الجلالية والجمالية غير متناهية شدة وقوة ويظهر منها على كل نفس ما يطيقه ويستعد له. وأتى لأحد من أولي المدارك أن يحيط بصفاته على ما هي عليه، فإن المدارك عن إدراك غير المتناهي قاصرة. نعم، لبعض المدارك العالية أن يدركه على الإجمال. مع أن ما يظهر للعقلاء من صفاته ليس هو من حقيقة صفاته، بل هو غاية ما تتأدى إليه عقولهم ويتصور كما لا. ولو ظهر قدر ذرة من حقيقة بعض صفاته لأقوي العقول وأعلى المدارك، لاحترق من سبحات وجهه، وتفرقت أجزاؤه من نور ربه. ولو انكشف من بعضها الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب، فغاية ما للمدارك العالية من العقول والنفوس القادسة، أن يتصور عدم