الإسراف أحسن من النقصان عنه، وأشبه بالمحافظة على شرائطه، فالتفضل إنما يصدر عن فضيلة العدالة، لأنها مبالغة فيها ولا يخرجها عن حقيقتها، إذ المتفضل من يعطي المستحق أزيد مما يستحقه، وهذه الزيادة ليست مذمومة بل هي العدالة مع الاحتياط فيها، ولذا قيل: " إن المتفضل أفضل من العادل "، والمذموم أن يعطي غير المستحق أو يترك المساواة بين المستحقين لأنه أنفق فيما لا ينبغي أو على ما لا ينبغي، وصاحبه لا يسمى متفضلا بل مضيعا، ولكون التفضل احتياطا إنما يحسن من الرجل بالنسبة إلى صاحبه في المعاملة التي بينهما، ولو كان بين جماعة ولم يكن له نصيب في ما يحكم فيه لم يسعه إلا العدل المحض ولم يجز له التفضيل.
تتميم قد تلخص أن حقيقة العدالة أو لازمها أن يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه، فلا يفسد نظام العالم الإنساني، فإن الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة ومصلحته التامة عن القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها واضطرابها أنواع الشر، وجذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه، كما هو الشأن في كل مركب. وقد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع وينشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل إنسان أن يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل والخير المطلق على قواه المختلفة، ليرفع اختلافها وتجاذبها ويقيم الجميع على الصراط القويم.
ثم كل شخص ما لم يعدل قواه وصفاته لم يتمكن من إجراء أحكام العدالة بين شركائه في المنزل والبلد، إذ العاجز عن إصلاح نفسه كيف يقدر على إصلاح غيره، فإن السراج الذي لا يضئ قريبه كيف يضيئ بعيده، فمن عدل قواه وصفاته أولا واجتنب عن الإفراط والتفريط واستقر على جادة في أرضه، وإذا كان مثله حاكما بين الناس وكان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره، لتنورت البلاد بأهلها، وصلحت أمور العباد بأسرها، وزاد